وقوله ( في عمد ممدة ) حال : إما من ضمير ( عليهم ) أي في حال كونهم في عمد أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فلقة ذات ثقب يدخل في رجله أو في عنقه كالقرام . وإما حال من ضمير ( إنها ) أي أن النار الموقدة في عمد أي متوسطة عمدا كما تكون نار الشواء إذ توضع عمد وتجعل النار تحتها تمثيلا لأهلها بالشواء .
و ( عمد ) قرأه الجمهور بفتحتين على أنه اسم جمع عمود مثل : أديم وأدم وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف ( عمد ) بضمتين وهو جمع عمود والعمود : خشبة غليظة مستطيلة .
والممددة : المجعولة طويلة جدا وهو اسم مفعول من مدده إذا بالغ في مده أي الزيادة فيه .
وكل هذه الأوصاف تقوية لتمثيل شدة الإغلاظ عليهم بأقصى ما يبلغه متعارف الناس من الأحوال .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة الفيل .
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة ( ألم تر ) . روى القرطبي في تفسير ( سورة قريش ) عن عمرو بن ميمون قال : صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية ( ألم تر ) و ( لإيلاف قريش ) . وكذلك عنونها البخاري . وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير ( سورة الفيل ) .
وهي مكية بالاتفاق .
A E وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة ( قل يا أيها الكافرون ) وقبل ( سورة الفلق ) . وقيل قبل ( سورة قريش ) لقول الأخفش إن قوله تعالى ( لإيلاف قريش ) متعلق بقوله ( فجعلهم كعصف مأكول ) ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة . ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون .
وآيها خمس .
أغراضها .
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم وذلك ما سماه الله كيدا وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله .
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي A عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته .
ومن وراء ذلك تثبيت النبي A بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله A ودينه ويشعر بهذا قوله ( ألم نجعل كيدهم في تضليل ) .
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي A تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا .
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين : أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كما آمن بالله واليوم الآخر ) الآية وقوله ( وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) .
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل [ 1 ] ) استفهام تقريري وقد بينا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيرا ما يكون على نفي المقرر بإثباته للثقة فإن المقرر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم ) في سورة البقرة . والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته . وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبي A فيكون من باب قوله ( لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ) وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره