فالانفكاك : الإقلاع وهو مطاوع فكه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق ( منفكين ) محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة ( الذين كفروا ) والتقدير : منفكين عن كفرهم وتاركين له سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول A فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان ومن أفراد المنتصرين بمكة أو المدينة .
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا ( إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) وقال عنهم ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) . وقال عن الفريقين ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ) وحكى عن المشركين بقوله ( فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ) وقولهم ( فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) .
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبي ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية ( أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه ) . ثم قولها فيه ( وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب ( الإصحاح الثامن عشر ) . وقول الإنجيل ( وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر لينكف معكم إلى الأبد ( أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد ) روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يرى ولا يعرفه ( يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة 6 ) ( وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم بكل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم ( يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقره 26 ) .
وقوله ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ( أي بعد عيسى ) ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى ( أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مؤول في بقاء دينه إذ لا يبقى أحد إلى انقراض الدنيا ) فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى ) أي نهاية الدنيا ( متى الإصحاح الرابع والعشرون ) أي فهو خاتم الرسل كما هو بين .
وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفي وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول A الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذبوا المبعوث إليهم .
والبينة : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية .
ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متى لفظ ( شهادة لجميع الأمم ) ( ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية ) وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله ( وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) .
والظاهر أن التعريف في ( البينة ) تعريف العهد الذهني وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم : ادخل السوق لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق ومنه قول زهير : .
" وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ولذلك قال علماء البلاغة : إن المعرف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة .
ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم .
A E