وأوثرت كلمة ( البينة ) لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله ( أولو تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ) وقوله ( فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) وقوله ( من بعد ما تبين لهم الحق ) وقال عن القرآن ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) .
و ( من ) في قوله ( من أهل الكتاب ) بيانية بيان للذين كفروا .
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد A بما هو أتقن من ترهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردون به تلك الدعوة وخاصة بعدما هاجر النبي A إلى المدينة .
فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب وأما المشركون فتبع لهم .
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله ( حتى تأتيهم البينة ) فيكون الوقف هناك ويكون قوله ( رسول من الله ) إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء أي هي رسول من الله يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة وهي جملة معترضة بين جملة ( لم يكن الذين كفروا منفكين ) إلى آخرها وبين جملة ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ) .
ويجوز أن يكون ( رسول ) بدلا من ( البينة ) فيقتضي أن يكون من تمام لفظ ( بينة ) فيكون من حكاية ما زعموه . أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون قال تعالى ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ) .
وتنكير ( رسول ) للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى ( أياما معدودات ) وقول ( المص كتاب أنزل إليك ) .
وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل : فقد جاءتكم البينة على حد قوله تعالى ( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ) وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى ( قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله ) .
فأسلوب هذا الرد مثل أسلوب قوله تعالى ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) .
وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة ( وأجعل كلامي في فمه ) .
وقول الإنجيل ( ويذكركم بكل ما قلته لكم ) كما تقدم آنفا وهو ما أشار إليه قوله تعالى ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ) لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة وأنه يبلغ عن الله وينطق بوحيه وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا . قال حجة الإسلام في كتاب المنقذ من الضلال ( إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة ) .
و ( من الله ) متعلق ب ( رسول ) ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين ( رسول ) فيشعر بتعظيم هذا الرسول .
وجملة ( يتلو صحفا ) الخ صفة ثانية أو حال وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة .
والتلاوة : إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب ففعل ( يتلو ) مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه .
A E