وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عقبه من الحوادث أن الوحي فتر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة . وقال السهيلي : كانت المدة سنتين وفيه بعد . وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي A كان في مدة فترة الوحي يرى جبرائيل ويتلقى منه وحيا ليس من القرآن . وقال السهيلي في الروض الأنف : ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس ( أي العصر ) وصلاة قبل طلوعها ( أي الصبح ) وقال يحيى بن سلام مثله وقال : كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اه . فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي A غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى ( وأسجد وأقترب ) يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها .
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول السورة حدثت فيها صلاة رسول الله A وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن جريا على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بين وجريا على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت .
فموقع قوله ( إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ) موقع المقدمة لما يرد بعده من قوله ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) إلى قوله ( لا تطعه ) لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) إلى قوله ( فليدع ناديه ) .
والمعنى : أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإنسان .
والتعريف في ( الإنسان ) للجنس أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحس من نفسه الاستغناء واللام مفيدة الاستغراق العرفي أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خلقه أو دينه .
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه .
والطغيان : التعاظم والكبر .
والاستغناء : شدة الغنى فالسن والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر .
( وأن رءاه ) متعلق ب ( يطغى ) بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع ( أن ) كثير وشائع والتقدير : إن الإنسان ليطغى لرويته نفسه مستغنيا .
وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصبو خلقا حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء فهو في عزة عند نفسه .
فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس . ونبهت على الحذر من تغلغلها في النفس .
ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد : أحدهما فاعل والآخر مفعول في كلام العرب إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في الآية ومنه قوله تعالى ( قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ) في سورة الإسراء . قال الفراء : والعرب تطرح النفس من هذا الجنس ( أي جنس أفعال الظن والحسبان ) تقول : رأيتني وحسبتني ومتى تراك خارجا ومتى تظنك خارجا وألحقت ( رأى ) البصرية ب ( رأى ) القلبية عند كير من النحاة كما في قوله قطري بن الفجاءة : .
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي من النادر قول النمر بن تولب : A E .
قد بت أحرسني وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام وقرأ الجميع ( أن رءاه ) بألف بعد الهمزة وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن أبن كثير ( رأه ) بدون ألف بعد الهمزة قال ابن مجاهد : هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجها غريبا عن قنبل