وأما خلق جسد الإنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة ويظهر هذا كمال الظهور في قوله ( ثم رددناه أسفل سافلين ) فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نبوه عن غرض السورة أشد وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم ويدل ذلك قوله بعده ( إلا الذين آمنوا ) لأن الإيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق فذلك هو الأصل في تكوين الإنسان إذ سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين ؛ أما من عاهة تلحقه لمرض أحد الأبوين أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئا من فطرته كحماقة السوداويين والسكريين أو خبال المختبلين ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات وتناول المخدرات مما يورثه على طول انثلام تعقله أو خور عزيمته .
A E والذي نأخذه من هذه الآية أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته فترمي به في الضلالات أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد .
ويفسر هذا المعنى قول النبي A " ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " الحديث ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطا ثم هو بعد ذلك عرضة لعديد من المؤثرات فيه أن خيرا فخير وإن شرا فشر وأقتصر النبي A على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما وأشد إلحاحا على ولدهما .
ولم يعرج المفسرون قديما وحديثا على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة . وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية أو على استقامة القامة . وروي عن ابن عباس أو على الشباب والجلادة وروي عن عكرمة وابن عباس .
ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر أنه قال " تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز " ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم " أن ( أحسن تقويم ) أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان " .
وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة وما يظنه باطلا أو هلاكا ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى ويغار على المستضعفين ويشمئز من الظلم ما دام مجردا عن روم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره تلك العوارض تحول بينه وبين فطرته زمنا ويهش إلى كلام الوعاظ والحكماء والصالحين ويكرمهم ويعظمهم ويود طول بقائهم .
فإذا ساورته الشهوة السيئة فزينت له ارتكاب المفاسد ولم يستطع ردها عن نفسه انصرف إلى سوء الأعمال وثقل عليه نصح الناصحين ووعظ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله