وفي ابتداء السورة بالقسم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعة استهلال لغرض السورة وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم أي خلقه على الفطرة السليمة مدركا لأدلة وجود الخالق ووحدانيته . وفيه إيماء إلى أن ما خالف ذلك من النحل والملل قد حاد عن أصول شرائع الله كلها بقطع النظر عن اختلافها في الفروع ويكفي في تقوم معنى براعة الاستهلال ما يلوح في المعنى من احتمال .
وجملة ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) مع ما عطف عليه هو جواب القسم .
والقسم عليه يدل على أن التقويم تقويم خفي وأن الرد رد خفي يجب التدبر لإدراكه كما سنبينه في قوله ( في أحسن تقويم ) . فلذلك ناسب أن يحقق بالتوكيد بالقسم لأن تصرفات معظم الناس في عقائدهم جارية على حالة تشبه حالة من ينكرون أنهم خلقوا على الفطرة .
A E والخلق : تكوين وإيجاد لشيء وخلق الله جميع الناس هو أنه خلق أصول الإيجاد وأوجد الأصول الأولى في بدء الخليقة كما قال تعالى ( لما خلقت بيدي ) وخلق أسباب تولد الفروع من الأصول فتناسلت منها ذرياتهم كما قال ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) .
وتعريف ( الإنسان ) يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو التعريف الملحوظ فيه مجموع الماهية مع وجودها في الخارج في ضمن بعض أفرادها أو جميع أفرادها .
ويحمل على معنى : خلقنا جميع الناس في أحسن تقويم .
ويجوز أن يكون تعريف ( الإنسان ) تعريف الحقيقة نحو قولهم : الرجل خير من المرأة وقول امرئ القيس : .
" الحرب أول ما تكون فتية فلا يلاحظ فيه أفراد الجنس بل الملحوظ حالة ماهية في أصلها دون ما يعرض لأفرادها مما يغير بعض خصائصها . ومنه التعريف الواقع في قوله تعالى ( إن الإنسان خلق هلوعا ) وقد تقدم في سورة المعارج .
والتقويم : جعل الشيء في قوام " بفتح القاف " أي عدل وتسوية وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان أي أحسن تقويم له وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم .
وحرف ( في ) يفيد الظرفية المجازية المستعارة لمعنى التمكن والملك فهي مستعملة في معنى باء الملابسة أو لام الملك وإنما عدل عن أحد الحرفين الحقيقيين لهذا المعنى إلى حرف الظرفية لإفادة قوة الملابسة أو قوة الملك مع الإيجاز ولولا الإيجاز لكانت مساواة الكلام أن يقال : لقد خلقنا الإنسان بتقويم مكين هو أحسن تقويم .
فأفادت الآية أن الله كون الإنسان تكوينا ذاتيا متناسبا ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته وليس تقويم صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله تعالى ولا جديرا بأن يقسم عليه إذ لا أثر له في إصلاح النفس وإصلاح الغيرة وإصلاح في الأرض ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسم بالتين والزيتون وطور سنين والبلد الأمين . وإنما هو متمم لتقويم النفس قال النبي A " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع .
فالمرضي عند الله هو تقويم إدراك الإنسان ونظره العقلي الصحيح لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد إذ الجسم آلة خادمة للعقل فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )