ولهذا كان الأصل في الناس الخير والعدالة والرشد وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدثين .
وجملة ( ثم رددناه أسفل سافلين ) معطوفة على جملة ( خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فهي في حيز القسم .
وضمير الغائب في قوله ( رددناه ) عائد إلى الإنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف .
و ( ثم ) لإفادة التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطا بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جبل عليه وتغيير الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن ولأن هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين .
والمعنى : ولقد صيرناه أسفل سافلين أو جعلناه في أسفل سافلين .
والرد حقيقته : إرجاع ما أخذ من شخص أو نقل من موضع إلى ما كان عنده ويطلق الرد مجازا على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا .
و ( أسفل ) : اسم تفضيل أي أشد سفالة وأضيف إلى ( سافلين ) أي الموصوفين بالسفالة . فالمراد : أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله ( إلا الذين آمنوا ) .
A E وحقيقة السفالة : انخفاض المكان وتطلق مجازا شائعا على الخسة والحقارة في النفس فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه .
والسافلون : هم سفلة الاعتقاد والإشراك أسفل الاعتقاد فيكون ( أسفل سافلين ) مفعولا ثانيا ل ( رددناه ) لأنه أجري مجرى أخوات صار .
والمعنى : أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإيمان بالله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السمر أو من يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) .
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل فمن ملق إذا طمع ومن شح إذا شجع ومن جزع إذا خاف ومن هلع فكم من نفوس جعلت قرابين للآلهة ومن أطفال موءودة ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفنى الرأي .
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكون الأسباب العالية ونظام تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مد وقبض الظل إليه تعالى في قوله ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) إلى قوله ( ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ) وعلى نحو الإسناد في قول الناس : بنى الأمير مدينة كذا .
ويجوز أن يكون ( أسفل سافلين ) ظرفا أي مكانا أسفل ما يسكنه السافلون فإضافة ( أسفل ) إلى ( سافلين ) من إضافة الظرف إلى الحال فيه وينتصب ( أسفل ) ب ( رددناه ) انتصاب الظرف أو على نزع الخافض أي إلى أسفل سافلين وذلك هو دار العذاب كقوله ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي .
وحسب أن قوله تعالى ( ثم رددناه أسفل سافلين ) انتزع منه مالك C وما ذكره عياض في المدارك قال : قال ابن أبي اويس : قال مالك : أقبل علي يوما ربيعة فقال لي : من السفلة يا مالك ؟ قلت : الذي يأكل بدينه قال لي فمن سفلة السفلة ؟ قلت الذي يأكل غيره بدينه . فقال " زه " وصدرني " أي ضرب على صدري يعني استحسانا " . وأن المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ظللهم كبراؤهم وأيمتهم فسولوا لهم عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم .
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 6 ] ) استثناء متصل من عموم الإنسان فلما أخبر عن الإنسان بأنه رد أسفل سافلين ثم استثنى من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين .
والمعنى : أن الذين آمنوا بعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإشراك صاروا بالإيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم