وعلى ظاهر الاسمين للتين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأولين ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة والنخعي وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم ولكن مناسبة ذكر هذين مع ( طور سنين ) ومع ( البلد الأمين ) تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة فروي عن ابن عباس أيضا تفسير التين بأنه مسجد نوح الذي بني على الجودي بعد الطوفان . ولعل تسمية هذا الجبل التين لكثرته فيه إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرئ القيس : A E .
" امرخ ديارهم أم عشر وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابات بقوله : .
صهب الظلال أتين التين عن عرض ... يزجين غيما قليلا ماؤه شبما والزيتون يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون . وروي هذا عن ابن عباس والضحاك وعبد الرحمان بن زيد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرضي . ويجوز عندي أن يكون القسم ب ( التين والزيتون ) معنيا بهما شجر هاتين الثمرتين أي اكتسب نوعاهما شرفا من بين الأشجار يكون كثير منه نابتا في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير : .
أتذكر حين تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشام فدعا لنوع البشام بالسقي لأجل عود بشامة الحبيبة .
وأما ( طور سنين ) فهو الجبل المعروف ب " طور سينا " . والطور : الجبل بلغة النبط وهم الكنعانيون وعرف هذا الجبل ب ( طور سنين ) لوقوعه في صحراء ( سنين ) و ( سنين ) لغة في سين وهي صحراء بين مصر وبلاد فلسطين . وقيل : سنين اسم الأشجار بالنبطية أو بالحبشة وقيل : معناه الحسن بلغة الحبشة .
وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع مجاز في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب مثل : صفين ويبرين وقد تقدم عند قوله تعالى ( والطور وكتاب مسطور ) .
والبلد الأمين : مكة سمي الأمين لأن من دخله كان آمنا فالأمين فعيل بمعنى مفعل مثل " الداعي السميع " في بيت عمرو بن معد يكرب ويجوز ان يكون بمعنى مفعول على وجه الإسناد المجازي أي المأمون ساكنوه قال تعالى ( وآمنهم من خوف ) .
والإشارة إليه للتعظيم ولأن نزول السورة في ذلك البلد فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين نظير قوله ( لا أقسم بهذا البلد ) .
وعلى ما تقدم ذكره من المحملين الثانيين للتين والزيتون تتم المناسبة بين الإيمان وتكوم إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر فالتين إيماء إلى رسالة نوح وهي أول شريعة لرسول والزيتون إيماء إلى شريعة إبراهيم فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الحديث وقد ورد في أول الإسراء و ( طور سنين ) إيماء إلى شريعة التوراة و ( البلد الأمين ) إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى لأنها تكملة لشريعة التوراة .
وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه السلام لأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى ويكون قوله ( وهذا البلد الأمين ) إيماء إلى شريعة إبراهيم وشريعة الإسلام فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله تعالى ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) وبذلك يكون ترتيب الإيماء إلى شرائع نوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام غير جار على ترتيب ظهورها فتوجيه مخالفة الترتيب الذكري للترتيب الخارجي أنه لمراعاة اقتران الاسمين المنقولين عن اسمي الثمرتين ومقارنة الاسمين الدالين على نوعين من أماكن الأرض يتأتى محسن مراعاة النظير ومحسن التورية وليناسب ( سنين ) فواصل السورة