واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلل والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هرم فيهم وفي ذويهم قال النابغة : .
" تغشى متالف لا ينظرنك الهرما ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نظم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابن عطية .
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية قال طرفة : .
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد ؟ فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي بنون كرام سادة لمسود وجعلوا هذا الغرور مقياسا لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي A وعنده عمار وبلال وخباب وسالم مولى أبي حذيفة وصبيح مولى أسيد وصهيب في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك . وقالوا لأبي طالب : لو أن ابن أخيك طرد هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأدلى لاتباعنا إياه . وفي ذلك نزل قوله تعالى ( و تطرد الذين يدعون ربهم ) الآية كما تقدم في سورة الأنعام .
فنبه الله على خطأ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثله مما اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجبا صب العذاب عليهم وأعلمهم أن أحوال الدنيا لاتتخذ أصلا في اعتبار الجزاء على العمل وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة .
والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عرفي مراد به الناس المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) ( لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ) ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى ( يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ) الآية .
وقيل : أريد إنسان معين فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن المغيرة عن ابن عباس وقيل : أمية بن خلف عن مقاتل والكلبي وقيل : أبي بن خلف عن الكلبي أيضا . وإنما هؤلاء المسمون أعلام التضليل . قال ابن عطية : ومن حيث كان هذا غالبا على الكفار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع ( كذا ) بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اه .
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات باسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفته منافع ذلك تحكيا للشاهية ومحبة النفس ورجما بالغيب وافتياتا على الله وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلب له ضرا تخيله بأوهامه انتقاما من الله قصده به تشاؤما منهم .
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراما من الله لهم ليسوا أهلا لكرامة الله .
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الرزق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما فيه من نعمة .
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرف أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنة من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد ابن الراوندي عن تزلزل فهمهم وقلة علمه بقوله : .
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا .
هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا A E