وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها وصرفهم عن التدبر فيما ينيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه وعلم الله واسع وتصرفاته شتى وكلها صادرة عن حكمة ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى . وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد ومنه ما فيه سمة خرق العادة . فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد والموفق يتيقظ للأمارات قال تعالى ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) وقال ( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكن السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ) وقال ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) .
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعدها جار على ما قدره من نظام العالم وكل قد قضاه وقدره وسبق علمه به وربط مسبباته بأسبابه مباشرة أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهمه ولم تنهض دلائله ويفوض ما أشكل عليه إلى علم الله . وليس مثل هذا المحكي عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي A والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية . وقد نجد في بعض العوام ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية .
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ) . وقد يعجل العقاب لمن يغضب عليه من عباده . وقد حكى عن نوح قوله لقومه ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ) وقال تعالى ( وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا ) . ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي A والخلفاء على الأمم العظيمة القاهرة . وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه .
وحرف ( أما ) يفيد تفصيلا في الغالب أي يدل على تقابل بين شيئين من ذوات وأحوال . ولذلك قد تكرر في الكلام فليس التفصيل المستفاد منها بمعنى تبيين مجمل قبلها بل هو تفصيل وتقابل وتوازن وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له ( أما ) فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على ( أما ) وإنما تعلقه بما قبله تعلق المفرع بمنشأه لا تفصيل بيان على مجمل .
فالمفصل هنا أحوال الإنسان الجاهل فصلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبر عنهما بالظرفين في قوله ( إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ) الخ وفي قوله ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه ) الخ . وهذا التفصيل ليس من قبيل تبيين المجمل ولكنه تمييز وفصل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط .
وقد تقدم ذكر ( أما ) عند قوله تعالى ( فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ) الآية في سورة البقرة .
والابتلاء : الاختبار ويكون بالخير وبالضر لأن في كليهما اختبارا لثبات النفس وخلق الأناة والصبر قال تعالى ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضا . قال تعالى ( ليبلوني أأشكر أم أكفر ) وقال ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) والأشهر أنه الاختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين .
والمعني : إذا جعل ربه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهرا لحاله في الشكر والكفر وفي الصبر والجزع توهم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا .
A E