والطغيان شدة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طغوا في بلدهم ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل بفساد الجميع بسن سنن السوء ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله ( فأكثروا فيها الفساد ) لأن الطغيان يجرئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملائه فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه وذلك فساد عظيم لأن به اختلال الشرائع الإلاهية والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطغي عليه من الرعية فيضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكونون رجال الدولة متوجسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحذرونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوضا عن تتحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم فلا جرم كان الطغيان سببا لكثرة الفساد .
ويجوز أن يكون التعريف في ( البلاد ) تعريف العهد أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع أي طغت كل أمة في بلادها .
والفساد : سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ) . وضد الفساد الصلاح قال تعالى ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) وكان ما أكثروه من الفساد سببا في غضب الله عليهم والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب .
والصب حقيقته : إفراغ ما في الظرف وهو هنا مستعار لحلول العذاب دفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتسل أو يصب المطر على الأرض فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارة الإفراغ في قوله تعالى ( ربنا أفرغ علينا صبرا ) ونظير الصب قولهم : شن عليهم الغارة .
وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذابا مفاجئا قاضيا .
فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير .
وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة وأما فرعون فحسبوا البحر منحسرا فما راعهم إلا وقد أحاط بهم .
والسوط : آلة ضرب تتخذ من جلود مظفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحملها على المزيد من الجري .
وعن الفراء أن كلمة ( سوط عذاب ) يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط ( أي يقع السوط ) يريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك .
وإضافة ( سوط ) إلى ( عذاب ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي صب عليهم عذابا سوطا أي كالسوط في سرعة الإصابة فهو تشبيه بليغ .
وجملة ( إن ربك لبالمرصاد ) تذييل وتعليل لإصابتهم بسوط عذاب إذا قدر جواب القسم محذوفا . ويجوز أن تكون جواب القسم كما تقدم آنفا .
فعلى كون الجملة تذييلا تكون تعليلا لجملة ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) تثبيتا للنبي A بأن الله ينصر رسله وتصريحا للمعاندين بما عرض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأوليين أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد .
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدو ونحوه وهو المقسم عليه ومن قبله اعتراضا تفننا في نظم الكلام إذ قدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) الخ وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذ يجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلة إذا كان الكلام صالحا للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدم والمبادرة به .
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى ( ربك ) في قوله ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) وقوله ( إن ربك لبالمرصاد ) إيماء إلى أن فاعل ذلك ربه الذي شأنه أن ينتصر له فهو مؤمل بأن يعذب الذين كذبوه انتصارا له انتصار المولى لوليه .
والمرصاد : المكان الذي يترقب فيه الرصد أي الجماعة المراقبون شيئا وصيغة مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة فمعنى الآلة هنا غير محتمل فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب .
A E