لا يصلح هذا أن يكون جوابا للقسم ولكنه : إما دليل الجواب إذ يدل على أن المقسم عليه من جنس ما فعل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله ( فصب عليهم ربك سوط عذاب ) فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون .
وإما تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله ( إن ربك لبالمرصاد ) وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم .
والمعنى : أن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم فيكون تثبيتا للنبي A كقوله ( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) .
فالاستفهام في قوله ( ألم تر ) تقريري والمخاطب به النبي A تثبيتا له ووعدا بالنصر وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله فإن ما فعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله . لأن التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع لأن بعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناس وإذا نسي استبعد الناس وقوعه فالتذكير يزيل الاستبعاد .
فهذه العبر جزئيات من مضمون جواب القسم فإن كان محذوفا فذكرها دليله وإن كان الجواب قوله ( إن ربك لبالمرصاد ) كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه وإيذانا بجنس الجواب من قبل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرره في الأذهان .
والرؤية في ( ألم تر ) يجوز أن تكون رؤية علمية تشبيها للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المثل فكأنها مشاهدة . فتكون ( كيف ) استفهاما معلقا فعل الرؤية عن العمل في مفعولين .
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى : ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد وتكون ( كيف ) اسما مجردا عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية .
وعدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله ( فعل ربك ) لما في وصف رب من الإشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه .
وقد أبتدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذكر بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدثون العرب عنها .
وأريد ب ( عاد ) الأمة لا محالة قال تعالى ( وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم ) فوجه صرف أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثل هند ونوح وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرم بن سام بن نوح وهو جد عاد لأن عادا هو ابن عوص بن إرم وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة فهو عطف بيان ل ( عاد ) للإشارة إلى أن المراد ب ( عاد ) القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم وهو عاد الموصوفة ب ( الأولى ) في قوله تعالى ( وأنه أهلك عادا الأولى ) لئلا يتوهم أن المتحدث عنهم قبيلة أخرى تسمى عادا أيضا . كانت تنزل مكة مع العماليق يقال : إنهم بقية من عاد الأولى وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى .
ووصفت عاد ب ( ذات العماد ) و ( ذات ) وصف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة .
والعماد : عود غليظ طويل يقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دعامة وهو هنا مستعار للقوة تشبيها للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد .
وإطلاق العماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم : .
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاض نمنع من يلينا ويجوز أن يكون المراد ب ( العماد ) الأعلام التي بنوها في طرقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورة في قوله تعالى ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون ) .
ووصفت عاد ب ( ذات العماد ) لقوتها وشدتها أي قد أهلك الله قوما هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ) وقال ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم هم أشد منهم قوة ) .
و ( التي ) : صادق على ( عاد ) بتأويل القبيلة كما وصفت ب ( ذات العماد ) والعرب يقولون : تغلب ابنة وائل بتأويل تغلب بالقبيلة .
والبلاد : جمع بلد وبلدة وهي مساحة واسعة من الأرض معينة بحدود أو سكان .
A E