وقد رتبت هذه الخصال الثلاث في الآية على ترتيب تولدها . فاصلها : إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهي المشار إليه بقوله ( تزكى ) ثم استحضار معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار بقوله ( وذكر اسم ربه ) ثم الإقبال على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله ( فصلى ) والصلاة تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ) .
( بل تؤثرون الحيوة الدنيا [ 16 ] والآخرة خير وأبقى [ 17 ] ) قرأ الجمهور ( تؤثرون ) بمثناة فوقية بصيغة الخطاب والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات وقرأه أبو عمرو وحده بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائدا إلى ( الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ) .
وحرف ( بل ) معناه الجامع هو الإضراب أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد ( بل ) ؛ فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالا للمعطوف عليه : لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم . وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى ( أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق ) فهو انصراف في الحكم وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى ( ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا ) . فتكون ( بل ) بمنزلة قولهم " دع هذا " فهذا انصراف قولي . ويعرف أحد الاضرابين بالقرائن والسياق .
و ( بل ) هنا عاطفة جملة عطفا صوريا فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشقون بأن السبب إيثارهم الحياة الدنيا وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة .
ويجوز أن يكون الاضراب إبطالا لما تضمنه قوله ( قد أفلح من تزكى ) من التعريض للذين شقوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح .
والمعنى : أنهم بعداء عن أن يضن بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة الدنيا فالمعنى : بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة وهذا كما يقول الناصح شخصا يضن أنه لا ينتصح " لقد نصحتك وما أظنك تفعل " .
ويجئ فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين .
والإيثار : اختيار شيء من بين متعدد .
والمعنى : يؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم .
ولم يذكر المؤثر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه أي لا تتأملون فيما عدا حياتكم هذه ولا تتأملون في حياة ثانية فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ .
واعلم أن للمؤمنين حظا من هذه الموعظة على طول الدهر وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرط فيه أحدكم مما ينجيه في الآخرة إيثارا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك ميدان للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى ( وابتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) .
A E وجملة ( والآخرة خير وأبقى ) عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاء التوبيخ توجيها وتأييدا بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى .
وأبقى : اسم تفضيل أي أطول بقاء وفي حديث النهي عن جر الإزار " وليكن إلى الكعبين فإنه أتقى وأبقى " .
( إن هذا لفي الصحف الأولى [ 18 ] صحف إبراهيم وموسى [ 19 ] )