فمعنى ( لا يموت ) : لا يزول عنه الإحساس فإن الموت فقدان الإحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل .
وتعقيبه بقوله ( ولا يحيى ) احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يهلك المحرق فإذا قيل ( لا يموت ) توهم المنذرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإهلاك فيبقى المحرق حيا فيظن أنه إحراق هين فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه ( ولا يحيى ) أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله ( يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ) .
وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالة وسط بين حالتيهما مثل ( لا شرقية ولا غربية ) وقول إحدى نساء أم زرع " لا حر ولا قر " لأن ذلك لا طائل تحته .
ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك .
وفي الآية محسن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين " لا يموت ولا يحيى " .
( قد أفلح من تزكى [ 14 ] وذكر اسم ربه فصلى [ 15 ] ) استئناف بياني لأن ذكر ( من يخشى ) وذكر ( الأشقى ) يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف ( الأشقى ) بأنه ( يصلى النار الكبرى ) وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديما للأهم في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر . فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب . فالمراد ب ( من تزكى ) هنا عين المراد ب ( من يخشى ويذكر ) فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول ( ص9 في قوله تعالى ( فذكر ) .
وقد جمعت أنواع الخير في قوله ( قد أفلح ) فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير وتقدم في قوله تعالى ( أولئك هم المفلحون ) في البقرة .
والإتيان بفعل المضي في قوله ( أفلح ) للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة واقترانه بحرف ( قد ) لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى ( قد أفلح المؤمنون ) وقوله ( قد أفلح من زكاها ) لأن الكلام موجه إلى الأشقين الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا .
ومعنى تزكى : عالج أن يكون زكيا أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) .
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد وأصل ذلك هو التوحيد والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجئ بها فيشمل زكاة الأموال .
أخرج البزاز عن جابر بن عبد الله عن النبي A قال : ( قد أفلح من تزكى ) قال : من شهد أن لا اله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله ( وذكر اسم ربه فصلى ) قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة .
وقدم التزكي على ذكر الله والصلاة لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعلمت منافعها وأكثرت من الإقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكى بالإيمان .
A E وفعل ( ذكر اسم ربه ) يجوز أن يكون من الذكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة ( اسم ربه ) مرادا بها ذكر أسماء الله بالتعظيم مثل قول لا إله إلا الله وقول الله أكبر وسبحان الله ونحو ذلك على ما تقدم في قوله ( سبح اسم ربك الأعلى ) .
ويجوز أن يكون من الذكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة ( اسم ) مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال .
وتفريع ( فصلى ) على ( ذكر اسم ربه ) على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء