وجملة ( إن نفعت الذكرى ) معترضة بين الجملتين المعللة وعلتها وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول ( فذكر ) أي فدم على تذكير الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله ( سيذكر من يخشى ) الآية .
فالشرط في قوله ( إن نفعت الذكرى ) جملة معترضة وليس متعلقة بالجملة ولا تقييدا لمضمونها إذ ليس المعنى : فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكر إذا لم تنفع الذكرى إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى ولذلك كان قوله تعالى ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد بل المراد فذكر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب ( إن ) أن يكون غير مقطوع بوقوعه فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخص بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم . والواقع يكشف المقدور .
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف ( إن ) المقتضى عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه ولذلك جاء بعده بقوله ( سيذكر من يخشى ) فهو استئناف بياني ناشيء عن قوله ( فذكر ) وما لحقه من الاعتراض بقوله ( إن نفعت الذكرى ) المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين .
وهذا معنى قول ابن عباس : تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى ( إن ) ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس : إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني .
ويذكر : مطاوع ذكره . وأصله : يتذكر فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليأتي إدغامها في الذال الأخرى .
و ( من يخشى ) : جنس لا فرد " معين أي سيتذكر الذين يخشون " . والضمير المستتر في ( يخشى ) مراعى فيه لفظ ( من ) فإنه لفظ مفرد .
وقد نزل فعل ( يخشى ) منزلة اللازم فلم يقدر له المفعول أي يتذكر من الخشية فذكرته وجبلته أي من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به .
والخشية : الخوف وتقدم في قوله تعالى ( لعله يتذكر أو يخشى ) في سورة طه . والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون .
والتجنب : التباعد وأصله تفعل لتكلف الكينونة بجانب من شيء .
والجانب : المكان الذي هو طرف لغيره وتكلف الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه أي يتباعد عن الذكرى الأشقى .
والتعريف في ( الأشقى ) تعريف الجنس أي الأشقون .
والأشقى هو شديد الشقوة والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب وعندنا أن من علم إلى موته مؤمنا فليس بشقي .
فالأشقى : هو الكافر لأنه أشد الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار .
A E وتعريف ( الأشقى ) تعريف الجنس فيشمل جميع المشركين . ومن المفسرين من حمله على العهد فقال : أريد به الوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة .
ووصف ( الأشقى ) ب ( الذي يصلى النار الكبرى ) لأن إطلاق ( الأشقى ) في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبينه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية .
ومقابلة ( من يخشى ) ب ( الشقى ) تؤذن بأن ( الأشقى ) من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصا من شقاءه .
ووصف النار ب ( الكبرى ) للتهويل والإنذار والمراد بها جهنم .
وجملة ( ثم لا يموت فيها ولا يحيى ) عطف على جملة ( يصلى النار الكبرى ) فهي صلة ثانية .
و ( ثم ) للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حاله بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشد مما أفاده أنه في عذاب الاحتراق . ظرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة