وقوله ( والذي أخرج المرعى ) تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره . واقتصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها .
والمراد : إخراجه من الأرض وهو لإنباته .
والمرعى : النبت الذي ترعاه السوائم وأصله : إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المرعي من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويرعى إطلاقا مجازيا بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه .
والقرينة جعله مفعولا ل ( أخرج ) وإيثار كلمة ( المرعى ) دون لفظ النبات لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة .
والغثاء : بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة ويقال بتشديد المثلثة وهو اليابس من النبت .
والأحوى : الموصوف بالحوة بضم الحاء وتشديد الواو وهي من الألوان : سمرة تقرب من السواد . وهو صفة ( غثاء ) لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حوة .
وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغير لونه بعد أن كان أخضر يانعا وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء .
وفي وصف إخراج الله المرعى وجعله غثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام وإيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي ينبت به المرعى فتنتفع به الدواب والأنعام وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعى ويبلغ نضجه حين يصير غثاء أحوى على طريقة تمثيلية مكنية رمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى . وقد جاء بيان هذا الإيماء وتفصيله بقول النبي A " مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيه قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا " الحديث .
ويجوز أن يكون المقصود من جملة ( فجعله غثاء أحوى ) إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله فيه المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ) للإشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة فاستعير لعطف ( جعله غثاء ) الحرف الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف عليه ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ) إلى قوله ( فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) .
( سنقرئك فلا تنسى [ 6 ] إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 7 ] ) قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله ( سبح اسم ربك الأعلى ) بشارة إجمالية للنبي A بخير يحصل له فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه فيبلغه كما أوحى إليه ويحفظه من التفلت عليه ولهذا تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن البشارة تنشيء في نفس النبي A ترقبا لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي مع ما فرع على قوله ( سنقرئك ) من قوله ( فلا تنسي ) .
A E وإذا قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولا . وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس " أن النبي A كان يعالج من التنزيل شدة إذا نزل جبريل وكان مما يحرك شفتيه ولسانه يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) . يقول : إذا أنزل عليك فاستمع قال : فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله " وسورة القيامة التي منها ( لا تحرك به لسانك ) نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله ( سنقرئك فلا تنسى ) وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه .
وإنما ابتدىء بقوله ( سنقرئك ) تمهيدا للمقصود الذي هو ( فلا تنسى ) وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده