وجملة ( الذي خلق فسوى ) اشتملت على وصفين وصف الخلق ووصف تسوية الخلق وحذف مفعول ( خلق ) فيجوز أن يقدر عاما وهو ما قدره جمهور المفسرين وروي عن عطاء وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) .
ويجوز أن يقدر خاصا أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج أو خلق آدم كما روي عن الضحاك أي بقرينة قرن فعل ( خلق ) بفعل ( سوى ) قال تعالى ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) الآية .
وعطف جملة ( فسوى ) بالفاء دون الواو للإشارة إلى مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة : .
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب لأن التلهف يحق إذا صحبهم فغنم أموالهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه .
فالفاء من قوله ( فسوى ) للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم من اعتبار المعتبر على التسوية وإن كان حصول التسوية مقارنا لحصول الخلق .
والتسوية : تسوية ما خلقه فإن حمل على العموم فالتسوية أن جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادلا أي مناسبا للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زباني العقرب من تسوية خلقها لتدفع عن نفسها به بسهولة .
ولكونه مقارنا للخلقة عطف على فعل ( خلق ) بالفاء المفيدة للتسبب أي ترتب على الخلق تسويته .
والتقدير : وضع المقدار وإيجاده في الأشياء في ذواتها وقواها يقال : قدر بالتضعيف وقدر بالتخفيف بمعنى .
وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف .
والمقدار : أصله كمية الشيء التي تضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العد واطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين والباطنة مثل القلب ومن إيداع القوى العقلية كالحس والاستطاعة وحيل الصناعة .
وإعادة اسم الموصول في قوله ( والذي قدر ) وقوله ( والذي أخرج المرعى ) مع إغناء حرف العطف عن تكريره للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب .
وعطف قوله ( فهدى ) مثل عطف ( فسوى ) فإن حمل ( خلق ) و ( قدر ) على عموم المفعول كانت الهداية عامة .
والقول في وجه عطف ( فهدى ) بالفاء مثل القول في عطف ( فسوى ) مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإدراك والإرادة هي هداية الإلهام إلى كيفية استعمال ما قدر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه .
والمعنى : قدر الأشياء كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدر لها فالله لما قدر للإنسان أن يكون قابلا للنطق والعلم والصناعة بما وهبه من العقل وآلات الجسد هداه لاستعمال فكره لما يحصل من خلق له ولما قدر البقرة للدر ألهمها الرعي ورثمان ولدها لتدر بذلك للحالب ولما قدر النحل لإنتاج العسل ألهمها أن ترعى النور والثمار وألهمها بناء الجبح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل .
ومن أجل مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع . فمفعول ( هدى ) محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهدي فهو مخصوص بذوات الإدراك والإرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدر نظامها ولم يقدر لها الإدراك مثل تقدير الأثمار للشجر وإنتاج الزريعة لتجدد الإنبات فذلك غير مراد من قوله ( فهدى ) لأنها مخلوقة ومقدرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء وإن جعل مفعول ( خلق ) خاصا وهو الإنسان كان مفعول ( قدر ) على وزانه أي تقدير كمال قوى الإنسان وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإدراك والعقل .
A E وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن لهذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي A تسوية تلائم ما خلقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى ( سنقرئك فلا تنسى ) وقال ( ونيسرك لليسرى )