وعطف ( وما هو بالهزل ) بعد الثناء على القرآن بأنه ( قول فصل ) يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن ردا على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي A جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحيون يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله ( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) فالهزل على هذا الوجه هو ضد الجد أعني المزح واللعب ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيرا في المدح لا سيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة .
ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى ( وما هو بالهزل ) أي بالهذيان .
( إنهم يكيدون كيدا [ 15 ] وأكيد كيدا [ 16 ] ) استئناف بياني ينبيء عن سؤال سائل يعجب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعجب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم : هو هزل أو هذيان أو سحر فبين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود . فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه وهو إنما يصرفهم عن الإيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعللات الملفقة .
والتأكيد ب ( إن ) لتحقيق هذا الخبر لغرابته وعليه فقوله ( وأكيد كيدا ) تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه .
ويجوز أن يكون قوله ( إنهم يكيدون كيدا ) موجها إلى الرسول A تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن . أي إنما يدعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذبا على نحو قوله تعالى ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) .
والضمير الواقع اسما ل ( إن ) عائد إلى ما فهم من قوله تعالى ( إنه لقول فصل وما هو بالهزل ) من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك أي أن المشركين المكذبين يكيدون .
وجملة ( وأكيد كيدا ) تثبيت للرسول A ووعد بالنصر .
و ( كيدا ) في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم .
والكيد : إخفاء قصد الضر وإظهار خلافه فكيدهم مستعمل في حقيقته . وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسنها محسن المشاكلة .
( فمهل الكفرين أمهلهم رويدا [ 17 ] ) الفاء لتفريع الأمر بالإمهال على مجموع الكلام السابق من قوله ( إنه لقول فصل ) بما فيه من صريح وتعريض وتبيين ووعد بالنصر أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع به لا محالة .
والتمهيل : مصدر مهل بمعنى أمهل وهو الإنظار إلى وقت معين أو غير معين فالجمع بين ( مهل ) و ( أمهلهم ) تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير .
والمراد ب ( الكافرين ) ما عاد عليه ضمير ( إنهم يكيدون ) فهو إظهار في مقام الإظمار للنداء عليهم بمذمة الكفر فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون .
و ( رويدا ) تصغير رود بضم الراء بعدها واو ولعله اسم مصدر وأما قياس مصدره فهو رود بفتح الراء وسكون الواو وهو المهل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل ( أمهلهم ) فقد أكد قوله ( فمهل الكافرين ) مرتين .
A E والمعنى : انتظر ما سيحل بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتياد فيكون ( رويدا ) كناية عن تحقق ما يحل بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به .
وتصغيره للدلالة على التقليل أي مهلة غير طويلة .
ويجوز أن يكون ( رويدا ) هنا اسم فعل للأمر كما في قولهم : رويدك لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شرطا ويكون الوقف على قوله ( الكافرين ) و ( رويدا ) كلاما مستقلا فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر أي تصبر ولا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة .
بسم الله الرحمن الرحيم