وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية .
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل والترتيب والزيادة والتعيين وأصحها ما رواه مسلم والترمذي عن صهيب أن النبي A قص هذه القصة على أصحابه . وليس فيما روي تصريح بأن النبي A ساقها تفسيرا لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج .
وعم مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد في نجران وبالشام وبفارس أما الذين بالشام ف " انطانيوس " الرومي وأما الذي بفارق فهو " بختنصر " والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن وإنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر . وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السلام ويقرأ الأنجيل اسمه " فيميون " بفاء فتحتية فميم . فتحتية " وضبط في الطبعة الأوربية من سيرة ابن إسحاق - التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح بفتح فسكون فكسر فضم " قال السهيلي : ووقع للطبري للقاف عوض الفاء . وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة أصله من غسان من الشام ثم ساح فاستقر بنجران وكان منعزلا عن الناس مختفيا في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات . وكانت كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية فكثر المنتصرون في نجران وبلغ ذلك الملك ذا نؤاس وكان يهوديا وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة فقتل الملك الغلام وقتل الراهب وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت وعرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار .
فكان أصحاب الأخدود ممن عذب في أهل دين المسيحية في بلاد العرب . وقصص الأخاديد كثيرة في التاريخ والتعذيب بالحرق طريقة قديمة ومنها : نار إبراهيم عليه السلام . وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بني تميم وتلقيبه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود . وقال ابن عطية : رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم مائة .
والأخدود : بوزن أفعول وهو صيغة قليلة الدوران غير مقيسة ومنها قولهم : أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه وقولهم أسلوب اسم لطريقة ولسطر النحل وأقنوم اسم لأصل الشيء . وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة وأعجوبة وأطروحة وأضحوكة .
وقوله ( النار ) بدل من الأخدود بدل اشتمال أو بعض من كل لأن المراد بالأخدود الحفير بما فيه .
والوقود : بفتح الواو اسم ما توقد به النار من حطب ونفط ونحوه .
ومعنى ذات الوقود : أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقودا يلقى فيها كلما خبت .
ويتعلق ( إذ هم عليها قعود ) بفعل قتل أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود .
A E وضمير ( هم ) عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه أو أريد بها المأمورون من الملك . فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها و ( على ) للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها . وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى : .
" وبات على النار الندى والمحلق ومثله قوله تعالى ( وجد عليه أمة من الناس يسقون ) أي عنده .
وعلى احتمال أن يكون المراد ب ( أصحاب الأخدود ) المؤمنين المعذبين فيه فالقعود حقيقة و ( على ) للاستعلاء الحقيقي أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيبا وتمثيلا أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيبا .
وأعيد ضمير ( هم ) في قوله ( وهم على ما يفعلون ) ليتعين أن يكون عائدا إلى بعض أصحاب الأخدود