( ويل للمطففين [ 1 ] الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون [ 2 ] وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 3 ] ) افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد بلفظ ( ويل ) من براعة الاستهلال ومثله قوله تعالى ( تبت يدا أبي لهب ) . وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود : .
" بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا والتطفيف : النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل وهو مصدر طفف إذ بلغ الطفافة . والطفاف " بضم الطاء وتخفيف الفاء " ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام ويقال : الطف بفتح الطاء دون هاء تأنيث وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به وإنما يكون شيئا قليلا زائدا على ما ملأ الإناء فمن ثم سميت طفافة أي قليل زيادة .
ولا نعرف له فعلا مجردا إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل وفعله : طفف كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال ويقابله الوفاء .
و ( ويل ) كلمة دعاء بسوء الحال وهي في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع والويل : اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له وتقدم عند قوله تعالى ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ) في سورة البقرة .
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين وكان أهل مكة تجارا وكان في يثرب تجار أيضا وفيهم اليهود مثل أبي رافع وكعب بن الأشرف تاجري أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل .
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشيا في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يسبب ذلك .
A E واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلا فقال جماعة من المفسرين : إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك . رواه ابن ماجة عن ابن عباس .
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر .
فجملة ( الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ) إدماج مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة ( وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ) فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين .
والاكتيال : افتعال من الكيل وهو يستعمل في تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال : ابتاع وارتهن واشترى في معنى أخذ المبيع وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة فهو مطاوع كال كما أن ابتاع مطاوع باع وارتهن مطاوع رهن واشترى مطاوع شرى قال تعالى ( فأرسل معنا أخانا نكتل ) أي نأخذ طعاما مكيلا ثم تنوسي منه معنى المطاوعة .
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل فيقال : اكتال فلان طعاما مثل ابتاع ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل ( من ) الابتدائية فيقال : اكتال طعاما من فلان وإنما عدي في الآية بحرف ( على ) لتضمين اكتالوا معنى التحامل أي إلقاء المشقة على الغير وظلمه ذلك أن شأن التاجر وخلقه أن يتطلب توفير الربح وإنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة وعن الفراء ( من ) و ( على ) يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك فكأنه قال : أخذت ما عليك وإذا قال : اكتلت منك فكقوله : استوفيت منك .
فمعنى ( اكتالوا على الناس ) اشتروا من الناس ما يباع بالكيل فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل ( اكتالوا ) أي اكتالوا مكيلا ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلا فحذف المفعول لأنه معلوم .
فالواوان من ( كالوهم أو وزنوهم ) عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس