والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة ( فعدلك في أي صورة ) جامع لكثير ما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره .
وذكر عن صالح بن مسمار قال بلغنا " أن النبي A تلا هذه الآية فقال " غره جهله " ولم يذكر سندا .
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله ( فسواهن سبع سماوات ) ولكن قصد إظهار مراتب النعمة . وهذا من الإطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عليها بخصوصها ومن مقتضيات الإطناب مقام التوبيخ .
والخلق : الإيجاد على مقدار مقصود .
والتسوية : جعل الشيء سويا أي قويما سليما ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم .
والتعديل : التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين والرجلين والعينين وصورة الوجه فلا تفاوت بين متزاوجها ولا بشاعة في مجموعها . وجعله مستقيم القامة فلو كانت إحدى اليدين في الجنب والأخرى في الظهر لاختل عملهما ولجعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي وكذلك موضع الأعضاء الباطنة من الحلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين . وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع .
وخلق الله جسد الإنسان مقسمة أعضاؤه وجواره على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين .
وفرع فعل ( سواك ) على ( خلقك ) وفعل ( عدلك ) على ( سواك ) تفريعا في الذكر نظرا إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعا حاصلا في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقت كما في قوله تعالى ( الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) .
A E وقرأ الجمهور ( فعدلك ) بتشديد الدال . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل أي التسوية فيفيد إتقان الصنع .
وقوله ( في أي صورة ) اعلم أن أصل ( أي ) أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى ( من أي شيء خلقه ) في سورة عبس وقوله تعالى ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) .
والاستفهام بها كثيرا ما يراد بها الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه ( أي ) لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغا قويا يتساءل عنه ويستفهم عن شأنه ومن هنا نشأ معنى دلالة ( أي ) على الكمال وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم وإنما هي الاستفهامية و ( أي ) هذه تقع في المعنى وصفا لنكرة إما نعتا نحو : هو رجل أي رجل وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية فيجوز أن يتعلق قوله ( في أي صورة ) بأفعال ( خلقك فسواك فعدلك ) فيكون الوقف على ( في أي صورة ) .
ويجوز أن يتعلق بقوله ( ركبك ) فيكون الوقف على قوله ( فعدلك ) ويكون قوله ( ما شاء ) معترضا بين ( في أي صورة ) وبين ( ركبك ) .
والمعنى على الوجهين : في صورة أي صورة أي في صورة كاملة بديعة .
وجملة ( ما شاء ركبك ) بيان لجملة ( عدلك ) باعتبار كون جملة ( عدلك ) مفرعة عن جملة ( فسواك ) المفرعة عن جملة ( خلقك ) فبيانها بيان لهما .
و ( في ) للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة أي خلقك فسواك فعدلك ملابسا صورة عجيبة فمحل ( في أي صورة ) محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال ( عدلك ) أو ( ركبك ) فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصور بها للدلالة على تمكنها من موصوفها .
و ( ما ) يجوز أن تكون موصولة ما صدقها تركيب وهي موضع نصب على المفعولية المطلقة و ( شاء ) صلة ( ما ) والعائد محذوف تقديره : شاءه . والمعنى : ركبك التركيب الذي شاءه قال تعالى ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) .
وعدل عن التصريح بمصدر ( ركبك ) إلى إبهامه ب ( ما ) الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها