و ( ما قدمت وأخرت ) : هو العمل الذي قدمته النفس أي عملته مقدما وهو ما عملته في أول العمر والعمل الذي أخرته أي عملته مؤخرا أي في آخر مدة الحياة أو المراد بالتقديم بالمبادرة بالعمل والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل .
والمقصود من هذين تعميم التوفيق على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) في سورة لا أقسم بيوم القيامة .
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوما من قبل وبتذكر ما نسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير . وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا ( بل تكذبون بالدين ) ووعد للمتقين ومختلط لما عملوا عملا صالحا وآخر سيئا .
( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم [ 6 ] الذي خلقك فسويك فعدلك [ 7 ] في أي صورة ما شاء ركبك [ 8 ] ) استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإنذار يهيء النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشد تغلغلا في القلب حينئد لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك .
والنداء للتنبيه تنبيها يشعر بالاهتمام بالكلام لسماعه فليس النداء مستعملا في حقيقته إذ ليس مرادا به طلب إقبال ولا هو موجها لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد .
فالتعريف في ( الإنسان ) تعريف الجنس وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين أي ليس المراد إنسانا معينا وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عقبه ( بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين ) الآية .
وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده ( بل تكذبون بالدين ) فالمعنى : يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركا لأن إنكار البعث والشرك متلازمان يومئذ فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في إبداء الدعوة الإسلامية هم المشركون .
A E و ( ما ) في قوله ( ما غرك برك ) استفهامية عن الشيء الذي غر المشرك فحمله على الإشراك بربه وعلى إنكار البعث .
وعن ابن عباس وعطاء : الإنسان هنا الوليد بن المغيرة وعن عكرمة المراد أبي بن خلف وعن ابن عباس أيضا : المراد أبو الأشد بن كلدة الجمحي وعن الكلبي ومقاتل : نزلت في الأسود بن شريق .
والاستفهام مجاز في الإنكار والتعجيب من الإشراك بالله أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غرورا غره عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل إلا أن يغره به غاره فيحتمل أن يكون الغرور موجودا ومحتمل أن لا يكون غرور .
والغرور : الإطماع بما يتوهمه المغرور نفعا وهو ضر . وفعله قد ينسد إلى اسم ذات المطمع حقيقة مثل ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) أو مجازا نحو ( وغرتكم الحياة الدنيا ) فإن الحياة زمان الغرور وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) . وقول امرىء القيس : .
" أغرك مني إن حبك قاتلي أو مجازا نحو قوله تعالى ( زخرف القول غرورا ) .
ويتعدى فعله إلى مفعول واحد وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله ( ولا يغرنكم بالله الغرور ) أي لا يغرنكم غرورا متلبسا بشأن الله أي مصاحبا لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي باء السببية كما يقال : غره ببذل المال أو غره بالقول . وإذا كانت الملابسة لا تتصور ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام فالمعنى هنا : ما غرك بالإشراك بربك كما يدل عليه قوله ( الذي خلقك فسواك فعدلك ) الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلا مشركا .
وإيثار تعريف الله بوصف ( ربك ) دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإنشاء والرفق ففيه تذكير للإنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ .
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة