وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيرا وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولا . فنزل القريب منزلة المقارن فلذلك جعل الجميع شروطا ل ( إذا ) .
( فلا أقسم بالخنس [ 15 ] الجوار الكنس [ 16 ] واليل إذا عسعس [ 17 ] والصبح إذا تنفس [ 18 ] إنه لقول رسول كريم [ 19 ] ذي قوة عند ذي العرش مكين [ 20 ] مطاع ثم أمين [ 21 ] الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به فلما قضي حق الإنذار به وذكر أشراطه فرع عنه تصديق القرآن الذي أنذرهم بهوإنه موحى به من عند الله .
فالتفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذكر معا وقد جاء تفريع القسم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير : .
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم عقب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بعد القسم وإنما قصد به إن ما تقدم من الكلام إنما هو للإقبال على ما بعد الفاء وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير : ومعنى ( لا أقسم ) : إيقاع القسم وقد عدت ( لا ) زائدة وتقدم عند قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم ) في سورة الواقعة .
والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه وأدمج فيف أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى .
و ( الخنس ) : جمع خانسة وهي التي تخنس أي تختفي يقال : خنست البقرة والظبية إذا اختفت في الكناس .
و ( الجواري ) : جمع جارية وهي التي تجري أي تسير سيرا حثيثا .
و ( الكنس ) : جمع كانسة يقال : كنس الظبي إذا دخل كناسه " بكسر الكاف " وهو البيت الذي يتخذه للمبيت .
وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه فقيل : الخنس وهو من بديع التشبيه لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس . وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها .
فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا قال لبيد : .
" حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت بكرت تزل عن الثرى أزلامها وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله ( بالخنس ) استعارة وكان ( الجواري الكنس ) ترشيحين للاستعارة .
وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش والألغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية .
فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرا لأبيض ماجد أراد أنه يصنع بها غمدا لسيف صقيل مهند .
وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس : حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة وإن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش .
والمعروف في أقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة .
ثم عطف القسم ب ( الليل ) على القسم ب ( الكواكب ) لمناسبة جريان الكواكب في الليل ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم .
وعسعس الليل عسعاسا وعسة قال مجاهد عن ابن عباس : أقبل بظلامه وقال مجاهد أيضا عن ابن عباس معناه : أدبر ظلامه وقال زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع . وقال المبرد والخليل هو من الأضداد يقال : عسعس إذ أقبل ظلامه وعسعس إذا أدبر ظلامه . قال ابن عطية : قال المبرد : أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معا اه