وإما أن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام ومنها التبن ومنها يابس الفاكهة فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين وهل الأب مما يرجع إلى قوله ( متاعا لكم ) أو إلى قوله ( ولأنعامكم ) في جمع ما قسم قبله .
وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال " إن القوم كانت أكبر همتهم علكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان . وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن اه " . ولم يأت كلام الكشاف بأزيد من تقرير الإشكال .
وقوله ( متاعا لكم ) حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة وهذا نوع من التنازل .
وقوله ( ولأنعامكم ) عطف قوله ( لكم ) .
والمتاع : ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع وفيه لف ونشر مشوش والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره . وهذه الحال واقعة موقع الإدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال .
( فإذا جاءت الصاخة [ 33 ] يوم يفر المرء من أخيه [ 34 ] وأمه وأبيه [ 35 ] وصاحبته وبنيه [ 36 ] لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه [ 37 ] وجوه يومئذ مسفرة [ 38 ] ضاحكة مستبشرة [ 39 ] ووجوه يومئذ عليها غبرة [ 40 ] ترهقها قترة [ 41 ] أولئك هم الكفرة الفجرة [ 42 ] ) الفاء للتفريع على اللوم والتوبيخ في قوله تعالى ( قتل الإنسان ما أكفره ) وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله ( من أي شيء خلقه ) إلى قوله ( إنا صببنا الماء صبا ) ففرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله ( إلى طعامه ) وقوله ( متاعا لكم ولأنعامكم ) على نحو ما تقدم في قوله ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) من سورة النازعات .
والصاخة : صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخ الأسماع أي تصمها يقال : صخ يصخ قاصرا ومتعديا ومضارعه يصخ بضم عينه في الحالين . وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافا لا جدوى له وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعلمن الثلاثي فالصاخة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلا ونفخة الصور التي تبعث عندها الناس . و ( إذا ) ظرف وهو متعلق ب ( جاءت الصاخة ) وجوابه قوله ( وجوه يومئذ مسفرة ) الآيات .
والمجيء مستعمل في الحصول مجازا شبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر .
و ( يوم يفر المرء من أخيه ) بدل من ( إذا جاءت الصاخة ) بدلا مطابقا .
والفرار : الهروب للتخلص من مخيف .
وحرف ( من ) هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يعدى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال : فر من الأسد وفر من العدو وفر من الموت ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل ( عن ) .
A E وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم يقتضي هول ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته . والألف يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما قولك في هول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالا في النفس .
ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم