فابتدىء بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لأبنيهما وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة .
وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال : يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع .
وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرته هو الفار كان من ذكر معه مفرورا منه إلا قوله ( وصاحبته ) لظهور أن معناه والمرأة من صاحبها ففيه اكتفاء وإنما ذكرت بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة .
والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذ بقوا على الكفر .
وتعليق جار الأقرباء بفعل ( يفر المرء ) يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم .
وقد اجتمع في قوله ( يوم يفر المرء من أخيه ) إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى .
وجملة ( لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه ) مستأنفة استئنافا ابتدائيا لزيادة تهويل اليوم وتنوين ( شأن ) للتعظيم .
وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من ألئك من مثله كان الاستئناف جامعا للجميع تصريحا بذلك المقتضى فقال ( لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه ) أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بله الاشتغال عمن هو دون أولئك من القرابة والصحبة .
والشأن : الحال المهم .
وتقديم الخبر في قوله ( لكل امريء ) على المبتدأ ليتأتى تنكير ( شأن ) الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغات عدها النحاة بضعة عشر مسوغا ومنها تقديم الخبر على المبتدأ .
والإغناء : جعل الغير غنيا أي غير محتاج لشيء في عرضه . وأصل الإغناء والغني : حصول النافع المحتاج إليه قال تعالى ( وما أغني عنكم من الله من شيء ) وقال ( وما أغنى عني ماليه ) . وقد استعمل هنا في معنى الإشغال والإشغال أعم .
فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه ( وجوه يومئذ مسفرة ) إلى آخر السورة .
وجملة ( وجوه يومئذ مسفرة ) جواب ( إذا ) أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة .
وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلاف قوله في سورة النازعات ( فأما من طغى ) ثم قوله ( وأما من خاف مقام ربه ) إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصودا مسوقا إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء وذلك في قوله ( وما يدريك لعله يزكى ) إلى لآخره ثم قوله ( أما من استغنى فأنت له تصدى ) .
وأما سورة النازعات فقد بنيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله ( يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة ) فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب .
وتنكير ( وجوه ) الأول والثاني للتنويع وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ .
A E وإعادة ( يومئذ ) لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير : وجوه مسفرة يوم يفر المرء من أخيه إلى آخره .
وقد أغنت إعادة ( يومئذ ) عن ربط الجواب بالفاء .
والمسفرة ذات الإسفار والإسفار النور والضياء يقال : أسفر الصبح إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر أي وجوه متهللة فرحا وعليها أثر النعيم .
و ( ضاحكة ) أي كناية عن السرور .
و ( مستبشرة ) معناه فرحة والسين والتاء فيه للمبالغة مثل : استجاب ويقال : بشر أي فرح وسر قال تعالى ( قال يا بشراي هذا غلام ) أي يا فرحتي