وفعل قتل فلانا أصله دعاء عليه بالقتل . والمفسرون الأولون جعلوا ( قتل الإنسان ) أنه لعن رواه الضحاك عن ابن عباس وقوله مجاهد وقتادة وأبو مالك . قال في الكشاف " دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم " أي فمورده غير مورود قوله تعالى ( قاتلهم الله ) وقولهم : قاتل الله فلانا يريدون التعجب من حاله وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله ( ما أكفره ) يغني عن ذلك .
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء .
وبناء ( قتل ) للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء إذ لا غرض في قاتل يقتله وكثر في القرآن مبنيا للمجهول نحو ( فقتل كيف قدر ) .
وتعريف ( الإنسان ) يجوز أن يكون التعريف المسمى تعريف الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس وهو استغراق حقيقي وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولد بصيغة الاستغراق إدعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني ويسمى العام المراد به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بين به كفر الإنسان من قوله ( من أي شيء خلقه ) إلى قوله ( ثم إذا شاء أنشره ) فيكون المراد من قوله ( الإنسان ) المشركين المنكرين البعث وعلى ذلك جملة المفسرين فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث .
قال مجاهد : ما كان في القرآن ( قتل الإنسان ) فإنما عني به الكافر . والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس فالاستغراق الذي يقضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان فقوله ( ما أكفره ) تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر .
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإنسان .
فغالب الناس كفروا بالله من أقدم عصور التاريخ وتفشى الكفر بين أفراد الإنسان وانتصروا له وناضلوا عنه . ولا أعجب من كفر من ألهوا أعجز الموجودات من حجارة وخشب أو نفوا أن يكون لهم رب خلقهم .
ويجوز أن يكون تعريف ( الإنسان ) تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يعينه خبر سبب النزول فقيل : أريد به أمية بن خلف وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة .
وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا والمناسبة ظاهرة .
وجملة ( ما أكفره ) تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد . وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان .
A E ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كما وكيفا ومتى لأنه كفر بوحدانية الله وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء وبإرساله الرسول وبالوحي إليه A وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإنذار والتهديد .
وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حد المذمة جامع للملامة ولم يسمع مثلها قبلها فهي من جوامع الكلم القرآنية .
وحذف المتعلق بلفظ ( أكفره ) لظهوره من لفظ ( أكفر ) وتقديره : ما أكفره بالله .
وفي قوله ( قتل الإنسان ما أكفره ) محسن الاتزان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة .
وجملة ( من أي شيء خلقه ) بيان لجملة ( قتل الإنسان ما أكفره ) لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم .
وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى ( عم يتساءلون عن النبأ العظيم )