ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية أي ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبي A ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها . ومعنى ( مكرمة ) عناية الله بها ومعنى ( مرفوعة ) أنها من العالم العلوي ومعنى ( مطهرة ) مقدسة مباركة أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية .
وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف " فسفرة " يجوز أن يكون جمع سافر مثل كاتب وكتبة ويجوز أن يكون اسم جمع سفير وهو المرسل في أمر مهم فهو فعيل بمعنى فاعل وقياس جمعه سفراء وتكون ( في ) للظرفية المجازية أي المماثلة في المعاني .
وتاتي وجوه مناسبة في معنى ( سفرة ) فالمناسب للوجه الأول أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله A أو أن يكون المراد قراء القرآن وبه فسر قتادة وقال : هم بالنبطية القراء وقال غيرهم : الوراقون باللغة العبرانية .
وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرب كما في الإتقان عن ابن أبي حاتم وقد أغفلها السيوطي فيما أستدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها .
والمناسبة للوجه الثاني : أن يكون محمله الرسل .
والمناسب للوجه الثالث أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراء بين الله ورسله .
والمراد بأيديهم : حفظهم إياه إلى تبليغه فمثل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود وإما أن يراد : الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام .
وإما أن يراد كتاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة .
وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد .
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) فهذا معنى السفرة . وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة ( سفرة ) من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام .
ووصف ( كرام ) مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى ( كراما كاتبين ) .
ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله " الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة " .
والبررة : جمع بر وهو الموصوف بكثرة البرور . وأصل بر مصدر بر يبر من باب فرح ومصدره كالفرح فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع بر ولا يكون جمع بار .
A E والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون . قال الراغب " لأن بررت أبلغ من إبرار إذ هو جمع بر وأبرار جمع بار وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل " .
وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد وبرفعة مكانته وقدس مصدره وكرم قراره وطهارته وفضائل حملته ومبلغيه فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية .
( قتل الإنسان ما أكفره [ 17 ] من أي شيء خلقه [ 18 ] من نطفة خلقه فقدره [ 19 ] ثم السبيل يسره [ 20 ] ثم أماته فأقبره [ 21 ] ثم إذا شاء أنشره [ 22 ] ) استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثر وذلك يبينه ما وقع من الكلام الذي دار يبن النبي A وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم .
والمناسبة وصف القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن إنه أخبر عن البعث وطالبهم بالإيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله ( فمن شاء ذكره ) .
والذي عرف بقوله ( من استغنى ) يشمله العموم الذي أفاده تعريف ( الإنسان ) من قوله تعالى ( قتل الإنسان ما أكفره )