والاستفهام الصوري وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإثبات أن الله خلق الإنسان بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى ( أفعيينا بالخلق الأول ) أي كما كان خلق الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن ما ونظيره قوله تعالى ( فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر ) في سورة الطارق .
والضمير المستتر في قوله ( خلقه ) عائد إلى الله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان . 3 وقدم الجار والمجرور في قوله ( من نطفة خلقه ) محاكاة لتقديم المبين في السؤال الذي اقتضى تقديمه كونه استفهاما يستحق صدر الكلام مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كون أبدع مخلوق معروف من أهون شيء وهو النطفة .
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقديم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع .
فذكر فعل ( خلقه ) الثاني في أسلوب المساواة ليس بإيجاز وليس بإطناب .
والنطفة : الماء القليل وهي فعلة بمعنى مفعولة كقولهم : قبضة حب وغرفة ماء . وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل فذكرت النطفة لتعين ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل وليس في ذكر النطفة هنا إيماء الى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر على أن المقام هنا للدلالة على خلق عظيم وليس مقام زجر المتكبر .
وفرع على فعل ( خلقه ) فعل ( فقدره ) بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى ( وخلق كل شيء فقده تقديرا ) أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصريف وتمكينه من النظر بعقله والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرجا مفرعا .
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان من خلال الاستدلال .
وحرف ( ثم ) من قوله ( ثم السبيل يسره ) للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثر العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة .
والسبيل : الطريق وهو مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيها للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيه المحسوس بالمعقول .
ويجوز أن يكون مستعارا لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك الممر اسم السبيل في قولهم ( السبيلان ) فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه . وفيه مناسبة لقوله بعده ( ثم أماته فأقبره ) ف ( أماته ) مقابل ( خلقه ) و ( أقبره ) مقابل ( ثم السبيل يسره ) لأن الإقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض .
والتيسير : التسهيل و ( السبيل ) منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال والضمير عائد إلى ( السبيل ) . والتقدير : يسر السبيل له كقوله ( ولقد يسرنا القرآن للذكر ) أي لذكر الناس .
وتقديم ( السبيل ) على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين وفيه رعاية للفواصل .
A E وكذلك عطف ( ثم أماته ) على ( يسره ) بحرف التراخي وهو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القوى العقلية والحسية بالموت بعد أن كانت راسخة زمنا ما انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظار زمان يساوي مدة بقائها وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة .
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حي آيل لا محالة فالمعنى : ثم أماته ويميته .
فصيغة المضي في قوله ( أماته ) مستعملة في حقيقته وهو موت من مات ومجازه وهو موت من سيموتون لأن موتهم في المستقبل محقق . وذكر جملة ( ثم أماته ) توطئة وتمهيد لجملة ( فأقبره ) .
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال . وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج ( فقدره ثم السبيل يسره ) فيما سبق