وقد حصل في هذا إشعار من الله لرسوله A بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية وليس الاهتداء مقتصرا على حصول الإيمان مراتب وميادين لسبق همم النفوس لا يغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإثمار وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإيمان .
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى . فعلى الرسول A وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) .
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها ليخرج منها نبات نافع للخاصة والعامة .
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله A أن ذلك المشرك الذي محضه نصحه لا يرجى منه صلاح وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحا تفيد المبادرة به لأنه في حالة تلهفه على التلقي من رسول الله A أشد استعدادا منه في حين آخر .
فهذه الحادثة منوال ينسج عليها الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا وأن القرائن قد تستر الحقائق .
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي A بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه . وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة . وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي ( ص9 ووقوعه وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى وأن اجتهاده A لا يخطيء بحسب ما نصبه الله من الأدلة ولكنه قد يخالف ما في علم الله وأن الله لا يقر رسوله A على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر .
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل .
وفي قوله تعالى ( وما يدريك لعله يزكى ) إيماء إلى عذر النبي A في تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه والمعنى : لعله يزكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشدا حريصا وهذه حالة خفية .
A E وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله ( وما عليك أن لا يزكى ) إذ كان النبي A يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإقبال على استجابة المؤمن المسترشد .
فإن قال قائل : فلماذا لم يعلم الله رسوله A من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم .
قلنا : لأن العلم الذي يحصل عن تبين غفلة أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي A مزية كلا المقامين : مقام الاجتهاد ومقام الإفادة .
وحكمة ذلك كله أن يعلم الله رسوله A بهذا المهيع من علي الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها .
ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه السلام من المثل في ملاقاة الخضر وما جرى من المحاورة بينهما وقول الخضر لموسى ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ) ثم قوله له ( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) وقوله لإبراهيم ( لا ينال عهدي الظالمين ) .
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلا وتفصيلا وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم ومن العبوس له والتولي عنه ومن التصدي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه