والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبي A ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم " مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله " إنما هو عتاب على العبوس والتولي لا على ما حف بذلك من المبادرة بدعوة وتأخير إرشاد لأن ما سلكه النبي A في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد القويم لآن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر هما : إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم . وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية .
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيمانا وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يناكد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام .
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر فلم يسلك النبي A إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه . وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وهو القائل " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون ألي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع . فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار " وهو القائل " أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد . فلا قبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيآن له في كل وقت .
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيه A في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن . وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهر الله فيها غيب علمه إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان وتسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الأيمان ومع ما في ذلك من تذكير النبي A بما عمله الله من حسن لأدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين . فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصة من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعا بين المعاتبة والتعليم على سنن هدي القرآن في المناسبات .
( كلا ) A E إبطال وقد تقدم ذكر ( كلا ) في سورة مريم وتقدم قريبا في سورة النبأ . وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله ( وما يدريك لعله يزكى ) . ولو بالتعريض أيضا كما في قوله ( عبس وتولى ) .
وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإبطال إلى ( عبس وتولى ) خاصة .
ويجوز أن يكون تأكيدا لقوله ( وما عليك أن لا يزكى ) على التفسيرين أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلغت ما أمرت بتبليغه .
( إنها تذكرة [ 11 ] فمن شاء ذكره [ 12 ] في صحف مكرمة [ 13 ] مرفوعة مطهرة [ 14 ] بأيدي سفرة [ 15 ] كرام بررة [ 16 ] ) استئناف بعد حرف الإبطال وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول A الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصر في شيء من واجب التبليغ .
وضمير ( أنها ) عائدة إلى الدعوة التي تضمنها قوله ( فأنت له تصدى ) .
ويجوز أن يكون المعنى : أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما وإنما يعاتب الحبيب حبيبه .
ويجوز عندي أن يكون ( كلا إنها تذكرة ) استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبي A يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومن معه وكانوا لايستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث فتكون ( كلا ) إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك