والسعي : شدة المشي كني به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء الممتعض عن التصدي له .
وجملة ( وهو يخشى ) في موضع الحال وحذف مفعول ( يخشى ) لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى .
والمعنى : أنه جاء طلبا للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد . واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد .
والقول في ( فأنت عنه تلهى ) كالقول في ( فأنت له تصدى ) .
والعبرة في هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيه A علما عظيما من الحكمة النبوية ورفع درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاة الأمم فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحي صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم وأن ليس الإصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبه قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القوي على الضعيف مما فيه صفة الصلاح بل شأن مقوم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجا واحدا بل الأمر يختلف باختلاف الناس . وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة إن المجتهد إذا لاح له دليل " يبحث عن المعارض " والقاعدة القائلة " إن الله تعالى حكما قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطئه فله أجر واحد " .
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأن مستطاعهم فإن غوره هو اللائق بمرتبة أفضل الرسل A فيما لم يرد له فيه وحي فبحثه عن الحكم أوسع مدى من مدى أبحاث عموم المجتهدين وتنقيبه على المعارض أعمق غورا من تناوشهم لئلا يفوت سيد المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفا ما لم يكن إعماله يبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول A في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يوح إليه فيه .
فالتزكية الحق هي المحور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني وهي مرمى اجتهاد رسول الله A لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزك بالإيمان .
A E وفي حاليهما حالان آخران سرهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيه A وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإيمان حين لاح من لين نفسه لسماع القرآن ما أطمع النبي A بأنه قد اقترب من الإيمان فمحض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإيمان أعظم غرض بعث النبي A لأجله فالاشتغال به يبدو أهم وأرجح من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص وذلك ما فعله النبي A .
غير أن وراء ذلك الظاهر حالا آخر كامنا علمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوحي لرسوله A التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا . وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي A بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللين مصانعة أو حياء من المكابرة فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع الخاص لذاته . وفي ازدياد من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص بيد أن الكافر صاحب هذه القضية ينبيء دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها