و ( يوم يتذكر الإنسان ما سعى ) بدل من جملة ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) بدا اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب . وتذكر الإنسان ما سعاه : أن يوقف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكره .
والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة .
والمعنى : يوم يذكر الإنسان فيتذكر أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى ( قرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
وتبريز الجحيم : إظهار لأهلها . وجيء بالفعل المضاعف لإفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإرهاب .
والجحيم : جهنم . ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال أو هو بتأويل النار والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة .
وبني فعل ( برزت ) للمجهول لعدم الغرض ببيان مبرزها إذ الموعظة في الإعلام بوقوع إبرازها يومئذ .
و ( لمن يرى ) أي لكل راء ففعل ( يرى ) منزل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر كقول البحتري : .
" أن يرى مبصر ويسمع واع والفاء في قوله ( فأما من طغى ) رابطة الجواب ( إذا ) لأن جملة ( من طغى ) إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به ( إذا ) فلم يكن بين ( إذا ) وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ وأما في المعنى فيعلم أن ( إذا ) ظرف يتعلق الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر .
و ( أما ) حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى : مهما يكن شيء .
والطغيان تقدم معناه آنفاز والمراد هنا : طغى على أمر الله كما دل عليه قوله ( وأما من خاف مقام ربه ) .
A E وقدم ذكر الطغيان على أيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسببا عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي .
والإيثار : تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما .
ويعدى فعل الإيثار إلى اسم المأثور بتعديه الفعل إلى مفعوله ويعدى إلى المأثور عليه بحرف ( على ) قال تعالى حكاية ( لقد آثرك الله علينا ) وقد يترك ذكر المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة لدنيا والآخرة .
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى ( ويؤثرون على أنفسهم ) لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء .
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها أي التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة فالكلام على حذف مضاف تقديره : نعيم الحياة .
ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة . ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة .
وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا على أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده ( وأما من خاف مقام ربه ) الآية . وبه يظهر أن مناط الذم في يثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الآخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ول تنس نصيبك من الدنيا ) .
وقوله ( من خاف مقام ربه ) مقابل قوله ( من طغى ) لأن الخوف ضد الطغيان وقوله ( نهى النفس عن الهوى ) مقابل قوله ( وآثر الحياة الدنيا ) .
ونهي الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد يقولون : قالت له نفسه كذا فعصاها ويقال : نهى قلبه ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة : .
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها