وقد أشار إلى هذا قوله تعالى ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) أي لمن علموا أن الله ارتضى قبول الشفاعة فيه وهم يعلمون ذلك بإلهام هو من قبيل الوحي لأن الإلهام في ذلك العالم لا يعتريه الخطأ .
وجملة ( وقال صوابا ) يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول أي وقد قال المأذون له في الكلام صوابا أي بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله .
ويجوز أن تكون عطفا على جملة ( أذن له الرحمن ) أي وإلا من قال صوابا فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له .
وفعل ( وقال صوابا ) مستعمل في معنى المضارع أي ويقول صوابا فعبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك أي في علم الله .
وإطلاق صفة ( الرحمن ) على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار .
( ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا [ 39 ] ) استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد وإنذار وتبشير سيق مساق التنويه ب ( يوم الفصل ) الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) . والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض .
فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى ( وإن الدين لواقع ) وقوله آنفا ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) فيكون ( الحق ) بمعنى الثابت مثل ما في قوله تعالى ( واقترب الوعد الحق ) .
ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل أي العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي إذ الحق يقع فيه واليوم ظرف له قال تعالى ( يوم القيامة يفصل بينكم ) .
ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل : يوم حليمة ويوم بعاث . والمعنى : ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال : يوم وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى ( ذلك يوم التغابن ) فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ) أي التلاوة الحقيقية باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلو وأغراضه .
والإشارة بقوله ( ذلك ) إلى اليوم المتقدم في قوله ( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) . ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شؤونه كما في قوله تعالى ( أولئك على هدى من ربهم ) بعد قوله ( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ) إلى قوله ( وبالآخرة هم يوقنون ) فلأجل جميع ما وصف به ( يوم الفصل ) كان حقيقا بأن يوصف بأنه ( اليوم الحق ) وما تفرع عن ذلك من قوله ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا ) .
A E وتعريف ( اليوم ) باللام للدلالة على معنى الكمال أي هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما هو أهله من خير أو شر فكأن ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع .
وفرع عليه ( فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا ) بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق . والتقدير : فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه أي فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم . والتقدير : مآبا فيه أي في اليوم .
وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عند ما تسنح الفرصة للواعظ من تهيؤ النفوس لقبول الموعظة .
والاتخاذ : مبالغة في الأخذ أي أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقية بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية .
والاتخاذ : الاكتساب والجعل أي ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله لأن المآب عنده لا يكون إلا خيرا .
فقوله ( إلى ربه ) دل على أنه مآب خير لأن الله لا يرضى إلا بالخير