والمآب يكون اسم مكان من آب إذا رجع فيطلق على المسكين لأن المرء يؤوب إلى مسكنه ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب أي الرجوع كقوله تعالى ( إليه أدعو وإليه مآب ) أي رجوعي أي فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه أي أوبا حسنا .
( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) اعتراض بين ( مئابا ) وبين ( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ) كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي .
والمقصود من هذه الجملة الإعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شبهة ولا خفاء .
فالخبر وهو ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) مستعمل في قطع العذر وليس مستعملا في إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذارا أمر معلوم للمخاطبين . وافتتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك .
وجعل المسند فعلا مسندا إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوي الحكم مع تمثيل المتكلم في مثل المتبري من تبعة ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضر ان لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإنذار بالعدو " أنا النذير العريان " .
والإنذار : الإخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب .
وعبر عنه بالمضي لأن أعظم الإنذار قد حصل بما تقدم من قوله ( إن جهنم كانت مرصادا للطاغين مئابا ) إلى قوله ( فلن نزيدكم إلا عذابا ) .
وقرب العذاب مستعمل مجازا في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد قال تعالى ( إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ) أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإنذار به ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك . وعن مقاتل : هو قتل قريش ببدر . ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى ( يعذبهم الله بأيديكم ) وقوله ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
( يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا [ 40 ] ) يجوز أن يتعلق بفعل ( اتخذ إلى ربه مئابا ) فيكون ( يوم ينظر ) ظرفا لغوا متعلقا ب ( أنذرناكم ) .
ويجوز أن يكون بدلا من ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا ) لأن قيام الملائكة صفا حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه أي ما عمله سالفا فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه .
وعلى كلا الوجهين فجملة ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه .
والمرء : اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثه امرأة .
والاقتصار على المرء جري على غالب استعمال العرب في كلامهم فالكلام خرج مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت .
والمراد : ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى ما قدمت يداه . وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب .
وتعريف ( المرء ) للاستغراق مثل ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) .
A E وفعل ( ينظر ) يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر والمعنى : يوم يرى المرء ما قدمت يداه . ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه : حصول جزاء عمله له فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئيا لصاحبه من خير أو شر فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ونظيره قوله تعالى ( ليروا أعمالهم ) وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ) الآية . و ( ما ) موصولة صلتها جملة ( قدمت يداه ) .
ويجوز أن يكون من نظر الفكر وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال : هو بخير النظرين ومنه التنظر : توقع الشيء أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه وتكون ( ما ) على هذا الوجه استفهامية وفعل ( ينظر ) معلقا عن العمل بسبب الاستفهام والمعنى : ينظر المرء جواب من يسأل : ما قدمت يداه ؟ ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى ( هل ينظرون إلا تأويله ) .
وتعريف ( المرء ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق .
والتقديم : تسبيق الشيء والابتداء به