وهذا الحساب مجمل هنا يبينه قوله تعالى ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) وقوله ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) .
وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعين فلذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيتين .
ويجوز أن يكون ( حسابا ) اسم مصدر أحسبه إذا أعطاه ما كفاه فهو بمعنى إحسابا فإن الكفاية يطلق عليها حسب بسكون السين فإنه إذا أعطاه ما كفاه قال : حسبي .
( رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر برفع ( رب ) ورفع ( الرحمن ) وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بخفضهما وقرأه حمزة والكسائي وخلف بخفض ( رب ) ورفع ( الرحمن ) فأما قراءة رفع الاسمين ف ( رب ) خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير يعود على قوله ( من ربك ) على طريقة حذف المسد إليه حذفا سماه السكاكي حذفا لاتباع الاستعمال الوارد على تركه أي في المقام الذي يجري استعمال البلغاء فيه على حذف المسند إليه وذلك إذا جرى في الكلام وصف ونحوه لموصوف ثم ورد ما يصلح أن يكون خبرا عنه أو أن يكون نعتا له فيختار المتكلم أن يجعله خبرا لا نعتا فيقدر ضمير المنعوت ويأتي بخبر عنه وهو ما يسمى بالنعت المقطوع .
والمعنى : إن ربك هو ربهم لأنه رب السماوات والأرض وما بينهما ولكن المشركين عبدوا غيره جهلا وكفرا لنعمته . و ( الرحمن ) خبر ثان .
وأما قراءة جر الاسمين فهي جارية على أن ( رب السماوات ) نعت ل ( ربك ) من قوله ( جزاء من ربك ) و ( الرحمن ) نعت ثان .
والرب : المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى ( فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها ) في سورة الحج فأن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها فكان إطلاق القرية مرادا به كلا المعنيين .
والمراد بما بين السماوات والأرض : ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء .
و ( ما ) موصولة وهي من صيغ العموم وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات .
وأتبع وصف ( رب السماوات ) بذكر اسم من أسمائه الحسنى وهو اسم ( الرحمن ( وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم .
وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله ( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ) .
( لا يملكون منه خطابا [ 37 ] ) يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من ( ما بينهما ) لأن ما بين السماوات والأرض يشمل ما في ذلك من المخلوقات العاقلة أو المزعوم لها العقل مثل الأصنام فيتوهم أن من تلك المخلوقات من يستطيع خطاب الله ومراجعته .
A E ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لإبطال مزاعم المشركين أو للاحتراس لدفع توهم أن ما تشعر به صلة رب من الرفق بالمربوبين في تدبير شؤونهم يسيغ إقدامهم على خطاب الرب .
والملك في قوله ( لا يملكون منه خطابا ( معناه القدرة والاستطاعة لأن المالك يتصرف فيما يملكه حسب رغبته لا رغبة غيره فلا يحتاج إلى إذن غيره .
فنفي الملك نفي الاستطاعة .
وقوله ( منه ) حال من ( خطابا ) . وأصله صفة لخطاب فلما تقدم على موصوفه صار حالا .
وحرف ( من ) اتصالية وهي ضرب من الابتدائية مجازية كقوله تعالى ( إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ) ف ( من ) الأولى اتصالية والثانية لتوكيد النص . ومنه قولهم : لست منك ولست مني وقوله تعالى ( ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ) أي لا يستطيعون خطابا يبلغونه إلى الله .
وضمير ( لا يملكون ) عائد إلى ( ما ) الموصولة في قوله ( وما بينهما ) لأنها صادقة على جميعهم