وقوله ( لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا ) يجوز أن يكون الضمير المجرور عائدا إلى الكأس فتكون ( في ) للظرفية المجازية بتشبيه تناول الندامى للشراب من الكأس بحلولهم في الكأس على طريق المكنية وحف ( في ) تخييل أو تكون ( في ) للتعليل كما في الحديث " دخلت أمرأة النار في هرة " الحديث أي من أجل هرة . والمعنى : لا يسمعون لغوا ولا كذابا منها أو عندها فتكون الجملة صفة ثانية ل ( كأسا ) . والمقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار العربدة من هذيان وكذب وسباب واللغو والكذب من العيوب التي تعرض لمن تدب الخمر في رؤوسهم أي فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا .
وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر قال عمارة بن الوليد : .
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى بينهم كالغنائم .
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الريان ليس بعائم وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال : .
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما ويجوز أن يعود ضمير ( فيها ) إلى ( مفازا ) باعتبار تأويله بالجنة لوقوعه في مقابلة ( جهنم ) من قوله ( إن جهنم كانت مرصادا ) أو لأنه أبدل ( حدائق ) من ( مفازا ) . وهذا المعنى نشأ عن أسلوب نظم الكلام حيث قدم ( حدائق وأعنابا ( الخ وأخر ( وكأسا دهاقا ) حتى إذا جاء ضمير فيها بعد ذلك جاز إرجاعه إلى الكأس وإلى المفاز كما علمت . وهذا من بديع الإيجاز مع وفرة المعاني مما عددناه من وجوه الإعجاز من جانب الأسلوب في المقدمة العاشرة من هذا التفسير أي لا يسمعون في الجنة الكلام السافل ولا الكذب . فلما أحاط بأهل جهنم أشد الأذى بجميع حواسهم من جراء حرق النار وسقيهم الحميم والغساق لينال العذاب بواطنهم كما نال ظاهر أجسادهم كذلك نفى عن أهل الجنة أقل الأذى وهو أذى سماع ما يكرهه الناس فإن ذلك أقل الأذى .
وكني عن انتفاء اللغو والكذاب عن شاربي خمر الجنة بأنهم لا يسمعون اللغو والكذاب فيها لأنه لو كان فيها لغو وكذب لسمعوه وهذا من باب قول امرئ القيس : .
" على لاحب لا يهتدي بمناره أي لا منار فيه فيهتدى به وهو نوع من لطيف الكناية والذي في الآية أحسن مما وقع في بيت امرئ القيس ونحوه لأن فيه إيماء إلى أن أهل الجنة منزهة أسماعهم عن سقط القول وسفل الكلام كما في قوله في سورة الواقعة ( لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ) .
واللغو : الكلام الباطل والهذيان وسقط القول الذي لا يورد عن روية ولا تفكير .
والكذاب : تقدم معناه آنفا .
وقرأ الجمهور ( كذابا ) هنا مشددا . وقرأه الكسائي هنا بتخفيف الذال . وانتصب ( جزاء ) على الحال من ( مفازا ) .
وأصل الجزاء مصدر جزى ويطلق على المجازي به من إطلاق المصدر على المفعول فالجزاء هنا المجازى به وهو الحدائق والجنات والكواعب والكأس .
والجزاء : إعطاء شيء عوضا على عمل . ويجوز أن يجعل الجزاء على أصل معناه المصدري وينتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعل مقدر . والتقدير : جزينا المتقين .
A E وإضافة رب إلى ضمير المخاطب مراد به النبي A للإيماء إلى أن جزاء المتقين بذلك يشتمل على إكرام النبي A لأن إسداء هذه النعم إلى المتقين كان لأجل أيمانهم به وعملهم بما هداهم إليه .
و ( من ) ابتدائية أي صادرا من لدن الله وذلك تنويه بكرم هذا الجزاء وعظم شأنه .
ووصف الجزاء بعطاء وهو أسم لما يعطى أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه جزاء شكرا لهم وعطاء كرما من الله تعالى وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافا .
وحسابا : اسم مصدر حسب بفتح السين يحسب بضمنها إذا عد أشياء وجميع ما تصرف من مادة حسب متفرع عن معنى العد وتقدير المقدار فوقع ( حسابا ) صفة ( جزاء ) أي هو جزاء كثير مقدر على أعمالهم .
والتنوين فيه للتكثير والوصف باسم المصدر للمبالغة وهو بمعنى المفعول أي محسوبا مقدرا بحسب أعمالهم وهذا مقابل ما وقع في جزاء الطاغين من قوله ( جزاء وفاقا )