المعنى الثالث : أن وجه الشبه باللباس هو الوقاية فالليل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحا ولذلك إذا غير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله : يا صباحاه . ويقال صبحهم العدو . وكانوا إذ أقاموا حرسا على الربى ناظورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهارا فإذا أظلم الليل نزل الحرس كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكر فرسه : .
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها .
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها ( وجعلنا النهار معاشا [ 11 ] ) لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بخلق نظام النهار فالنهار : الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية . وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار ؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجد راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق .
ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش وقد أشعر ذكر النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداء وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير : وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشا ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعة لفظا وضمنا .
والمعاش : يطلق مصدر عاش إذا حيي فالمعاش : الحياة ويطلق اسما لما به عيش الإنسان من طعام وشراب على غير قياس .
A E والمعنيان صالحان للآية إذ يكون المعنى : وجعلنا النهار حياة لكم شبهت اليقظة فيه الحياة أو يكون المعنى وجعلنا النهار معيشة لكم والإخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضا بعلاقة السببية لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة وذلك يقابل جعل الليل سباتا بمعنى الانقطاع عن العمل قال تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) .
ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسنات .
( وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 12 ] ) ناسب بعد ذكر الليل وانهار وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء أن يتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية .
والبناء : جعل الجاعل أو صنع الصانع بيتا أو قصرا من حجارة وطين أو من أثواب أو من أدم على وجه الأرض وهو مصدر بني فبيت المدر مبني والخيمة مبنية والطراف والقبة من الأدم مبنيان . والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض فليس الحفر بناء ولا نقر الصخور في الجبال بناء . قال الفرزدق : .
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتنا دعائمه أعز وأطول فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة .
واستعير فعل ( بنينا ) في هذه الآية لمعنى : خلقنا ما هو عال فوق الناس لأن تكوينه عاليا يشبه البناء .
ولذلك كان قوله ( فوقكم ) إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل ( بنينا ) وليس ذلك تجريدا للاستعارة لأن الفوقية لا تختص بالمبنيات مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السبع الشداد .
والمراد بالسبع الشداد : السماوات فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف للعلم به كقوله تعالى ( حملناكم في الجارية ) ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث إذ التقدير : سبع سماوات .
فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي : زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر . وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس