ويطلق السبات على النوم الخفيف وليس مرادا في هذه الآية إذ لا يستقيم أن يكون المعنى : وجعلنا نومكم نوما ولا نوما خفيفا .
وفي تفسير الفخر : طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا : السبات هو النوم فالمعنى : وجعلنا نومكم نوما . وأخذ في تأويلها وجوها ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله ابن الأعرابي أن السبات القطع كما قال تعالى ( من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ) وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت .
وأنكر أبن الأنباري وابن سيده أن يكون فعل سبت بمعنى استراح أي ليس معنى اللفظ فمن فسر السبات بالراحة أراد تفسير حاصل المعنى .
وفي هذا امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يكدحون له في نهارهم فالله تعالى جعل النوم حاصلا للإنسان بدون اختياره فالنوم يلجئ الإنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه الهصبي الذي ركنه في الدماغ فبتلك الراحة يستجد العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لا بد له من أن يغلبه النوم وذلك لطف بالإنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسرا عليه لئلا يتهاون به ولذلك قيل : إن أقل الناس نوما أقصرهم عمرا وكذلك الحيوان .
( وجعلنا الليل لباسا [ 10 ] ) A E من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباسا حالة مهيئة لتكيف النوم ومعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الإبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره .
وكان دليلا على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فلما كذبوا خبر الرسول A به وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدروه حق قدره لشكروه وما أشركوا فكان تذكر حالة الليل سريع الخطورة بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين .
والمعني من جعل الليل لباسا يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس .
فيجوز أن يكون اللباس محمولا على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه أي ما يلبسه الإنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ أي جعلنا الليل للإنسان كاللباس له فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية . وتحته ثلاثة معان : أحدها : أن الليل ساتر للإنسان كما يستره اللباس فالإنسان في الليل يختلي بشؤونه التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين أي إلهين : إله النور وهو صانع الخير وإله الظلمة وهو صانع الشر . ويقال لهم الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين اثنين وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له ( ماني ) فارسي قبل الإسلام وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له ( مزدك ) فارسي قبل الإسلام . وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض بقوله : .
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب المعنى الثاني من معنيي وجه الشبه باللباس : أنه المشابهة في الرفق باللابس والملاءمة لراحته فلما كان الليل راحة للإنسان وكان محيطا بجميع حواسه وأعصابه شبه باللباس في ذلك . ونسب مجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير السدي وقتادة إذ فسروا ( سباتا ) سكنا