وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي . وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم قال تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) . وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك تني بالاستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى ( ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) .
وانتصب ( أزواجا ) على الحال من ضمير الخطاب في ( خلقناكم ) لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجا فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس ولما كان المناسب لكونهم أزواجا أن يساق مساق أيجاد الأحوال جيء به حالا من ضمير الخطاب في ( خلقناكم ) ولو صرح له بفعل لقيل : وخلقناكم وجعلناكم أزواجا على نحو ما تقدم في قوله ( ألم نجعل الأرض مهادا ) ومما يأتي من قوله ( وجعلنا نومكم سباتا ) .
A E والأزواج : جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد تكريرة واحدة وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد : حتى إذا سلخا جمادى ستة ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان فقوله ( أزواجا ) أفاد أن يكون الذكر زوجا للأنثى والعكس فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذكرها وتقدم ذلك عند قوله تعالى ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) في سورة البقرة .
وفي قوله ( وخلقناكم أزواجا ) إيماء إلى ما في ذلك الخلق من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى وهو مناط الإيماء إلى الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على أيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق .
وفيه استدلال على عظيم قدرة الله وحكمته وامتنان على الناس بأنه خلقهم وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجا ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم قال تعالى ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل ( خلقنا ) بضمير الناس . وجعل ( أزواجا ) حالا منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال : وخلقنا لكم أزواجا .
وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإقبال على النظر فيما بلغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله A وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم .
( وجعلنا نومكم سباتا [ 9 ] ) انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم وخص منها الحالة التي هي أقوى أحوالهم المعروفة شبها بالموت الذي يعقبه البعث وهي حالة متكررة لا يخلون من الشعور بما فيها من العبرة لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حال بحال الموت وما يعقبه من البعث .
وأوثر فعل ( جعلنا ( لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعل الخلق المناسب للذوات كما تقدم في قوله ( ألم نجعل الأرض مهادا ) وكذلك قوله ( وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) .
فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان فإن نوم الحيوان كله سبات ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال أي أن دليل البعث قائم بين في النوم الذي هو من أحوالكم وأيضا لأن في وصفه بسبات امتنانا والامتنان خاص بهم قال تعالى ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ) .
والسبات : بضم السين وتخفيف الباء أسم مصدر بمعنى السبت أي القطع أي جعلناه لكم قطعا لعمل الجسد بحيث لا بد للبدن منه وإلى هذا أشار ابن الاعرابي وابن قتيبة إذ جعلا المعنى : وجعلنا نومكم راحة فهو تفسير وإنما أوثر لفظ ( سبات ) لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده ( وجعلنا النهار معاشا ) كما سيأتي