عطف على ( الأرض مهادا ) فالواو عاطفة ( الجبال ) على ( الأرض ) وعاطفة ( أوتادا ) على ( مهادا ) وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل .
والأوتاد : جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية . والوتد : عود غليظ شيئا أسفله أدق من أعلاه يدق في الأرض لتشد به أطناب الخيمة وللخيمة أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها . والإخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد .
ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلا للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده .
A E وأيضا فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهادا فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحا بمنزلة حسن الاعتذار فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم : رأيت أسودا غابها الرماح . ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سبح الأرض في الكرة الهوائية إذ نتو الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تياره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة .
على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمة في الجبال فمنها مسايل الأدوية وقرارات المياه في سفوحها ومراعي أنعامهم ومستعصمهم في الخوف ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدو . ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض .
فكانت جملة ( والجبال أوتادا ) إدماجا معترضا بين جملة ( ألم نجعل الأرض مهادا ) وجملة ( وخلقناكم أزواجا ) .
( وخلقناكم أزواجا [ 8 ] ) معطوف على التقرير الذي في قوله ( ألم نجعل الأرض مهادا ) . والتقدير : وأخلقناكم أزواجا فكان التقرير هنا على أصله إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق فلذلك لم يقل : ألم نخلقكم أزواجا .
وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل لأنه تكوين ذواتهم فهو أدق من الجعل . وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله ( ألم نجعل الأرض مهادا ) وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب .
والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول ( لم ) عليه صيره في معنى الماضي لما هو مقرر من أن ( لم ) تقلب معنى المضارع إلى الماضي فلذلك حسن عطف ( خلقناكم ) على ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ) والكل تقرير على شيء مضى .
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى ( فتثير سحابا ) فالإتيان بالمضارع في ( ألم نجعل الأرض مهادا ) يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم . والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعودهم بمشاهدتها من قبل سن التفكر فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدو وعند الاعتلاء وعند الاعتلاء إلى مراقبها فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحرية بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا .
وجيء بفعل المضي في قوله ( وخلقناكم أزواجا ) وما بعده لأن مفاعيل فعل ( خلقنا ) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم