وسدى بضم السين والقصر : اسم بمعنى المهمل ويقال : سدى بفتح السين والضم أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال : إبل سدى وجمل سدى ويشتق منه فعل فيقال : أسدى إبله وأسديت إبلي وألفه منقلبة عن الواو .
ولم يفسر صاحب الكشاف هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع ( سدى ) في موضع الحال من ضمير يترك .
فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تأويل وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان ليستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد ذلك من مفاسد جسيمة ولا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليه المصير فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم كساد ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلا الأنكاد ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهيمون في كل وادي وتركهم مضربا لقول المثل " فإن الريح للعادي " ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة ( أن يترك سدى ) أي لا يحسب أن يترك غير مرعي بالتكليف كما تترك الإبل وذلك يقتضي المجازاة . وعن الشافعي : لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه . وقد تبين من هذا أن قوله ( أن يترك سدى ) كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة .
( ألم يك نطفة من مني يمنى [ 37 ] ثم كان علقة فخلق فسوى [ 38 ] فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 39 ] أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 40 ] ) استئناف هو علة وبيان للإنكار المسوق للاستدلال بقوله ( أيحسب الإنسان أن يترك ) الذي جعل تكريرا وتأييد لمضمون قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) الآية أي أن خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانه دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها فيتصل معنى الكلام هكذا : أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويعد ذلك متعذرا . ألم نبدأ خلقه إذ كوناه نطفة ثم تطور خلقه أطوارا فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك قال تعالى ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) .
وهذه الجمل تمهيد لقوله ( أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ) .
A E وهذا البيان خاص بأحد معنيي الترك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيده قوله ( سدى ) أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإحياء أن يجازي على عمله . والمعنى : أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته .
ووقع وصف ( سدى ) في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة وانتقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة فكان وقوعه إدماجا .
فالإنسان خلق من ماء وطور أطوارا حتى صار جسدا حيا تام الخلقة والإحساس فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإناث فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلا هو .
والنطفة : القليل من الماء سمي بها ماء التناسل وتقدم في سورة فاطر .
وأختلف في تفسير معنى ( تمنى ) فقال كثير من المفسرين معناه : تراق . ولم يذكر في كتب اللغة أن فعل : منى أو أمنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية ( منى ) التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تراق بها دماء الهدي ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية .
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح فاسم ( منى ) علم مرتجل وقال ثعلب : سميت من قولهم : منى الله عليه الموت أي قدره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن أبن شميل وعن أبن عيينة . وفسر بعضهم " تمنى " بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق أي خلقهم . والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله ( أفرأيتم ما تمنون ) في سورة الواقعة .
والعلقة : القطعة الصغيرة من الدم المتعقد