( فأولى ) : اسم تفضيل من ولي وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه قال الأصمعي معناه : قاربك ما تكره قالت الخنساء : .
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها وكان القانص إذا أفلته الصيد يخاطب الصيد بقوله " أولى لك " وقد قيل : إن منه قوله تعالى ( فأولى لهم ) من قوله ( فأولى لهم طاعة وقول معروف ) في سورة القتال على أحد تأويلين يجعل ( طاعة وقول معروف ) مستأنفا وليس فاعلا لاسم التفضيل . وذهب أبو علي الفارسي إلى أن ( أولى ) علم لمعنى الويل وأن وزنه أفعل من الويل وهو الهلاك فأصل تصريفه أويل لك أي أشد هلاكا لك فوقع فيه القلب " لطلب التخفيف " بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أولى بوزن أفلح فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا فقالوا : أولى في صورة وزن فعلى .
والكاف خطاب للإنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ وكان مقتضى الظاهر أن يقال : أولى له .
وقوله ( فأولى ) تأكيد " لأولى لك " جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعى عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر .
قال قتادة : إن رسول الله A خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فاخذ رسول الله فلبب أبا جهل بثيابه وقال له ( أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ) قال أبو جهل يتهددني محمد " أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد " فوالله إني لأعز أهل الوادي . وأنزل الله تعالى ( أولى لك فأولى ) كما قال لأبي جهل .
وقوله ( ثم أولى لك فأولى ) تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق .
وجيء بحرف ( ثم ) لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد وتهديد بأشد مما أفاده التهديد وتأكيده كقوله تعالى ( كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون ) .
وأحسب أن المراد : كل إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) إلى قوله ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) وما أبو جهل إلا من أولهم وأن النبي A توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله .
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح .
A E ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 36 ] ) استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتدئ به فارتبط بقوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) فكأنه قيل : أيحسب أن لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم .
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعه بقوله ( أن يترك سدى ) كما ستعلمه .
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى ( أيحسب الإنسان ن لن نجمع عظامه ) .
وأصل معنى الترك : مفارقة الشيء شيئا اختياريا من التارك ويطلق مجازا على إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله وبتعهده وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي .
والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) وقوله ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) .
وعدل عن بناء فعل يترك للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق ( أن لن نجمع عظامه ) فكأنه قال : أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى .
فجاء ذكر ( سدى ) هنا على طريقة الإدماج فيما سبق له الكلام إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازيه على ما عمله في حياته الأولى .
وفي إعادة ( أيحسب الإنسان ) تهيئة لما سيعقبه من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله ( ألم يك نطفة ) إلى آخر السورة .
فقوله ( أيحسب الإنسان أن يترك سدى ) تكرير وتعداد للإنكار على الكافرين تكذيبهم بالبعث ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدم الإنسان وأخر .
ومعنى هذا مثل قوله تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )