و ( باسرة ) : كالحة من تيقن العذاب وتقدم عند قوله تعالى ( ثم عبس وبسر ) في سورة المدثر .
فجملة ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) استئناف بياني لبيان سبب بسورها .
وفاقرة : داهية عظيمة وهو نائب فاعل ( يفعل بها ) ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعه ليس مؤنثا حقيقيا مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث . وإفراد ( فاقرة ) إفراد الجنس أي نوعا عظيما من الداهية .
والمعنى : أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يكتنه كنهها .
( كلا إذا بلغت التراقي [ 26 ] وقيل من راق [ 27 ] وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق [ 29 ] إلى ربك يومئذ المساق [ 30 ] ) ردع ثان على قول الإنسان ( أيان يوم القيامة ) مؤكد للردع الذي قبله في قوله ( كلا بل تحبون العاجلة ) . ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله ( إلى ربك يومئذ المساق ) أتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيؤ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى .
وعن المغيرة بن شعبة يقولون : القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته وعن علقمة أنه حضر جنازة فلما دفن قال : ( أما هذا فقد قامت قيامته ) فحالة الاحتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرة .
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل : ارتدوا وتنهبوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة فيكون ردعا على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة فليس مؤكدا للردع الذي في قوله ( كلا بل تحبون العاجلة ) بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة .
و ( إذا بلغت التراقي ) متعلق بالكون الذي يقدر في الخبر وهو قوله ( إلى ربك ) . والمعنى : المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي .
وجملة ( إلى ربك يومئذ المساق ) بيان للردع وتقريب لإبطال الاستعباد المحكي عن منكري البعث بقوله ( يسأل أيان يوم القيامة ) .
A E و ( إذا ) ظرف مضمن معنى الشرط وهو منتصب بجوابه أعنى قوله ( إلى ربك يومئذ المساق ) .
وتقديم ( إلى ربك ) على متعلقة وهو ( المساق ) للاهتمام به لأنه مناط الإنكار منهم .
وضمير ( بلغت ) راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل ( بلغت ) ونم ذكر ( التراقي ) فإن فعل ( بلغت التراقي ) يدل أنها روح الإنسان . والتقدير : إذا بلغت الروح أو النفس . وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان ومثله قول حاتم الطائي : .
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر أي إذا حشرجت النفس . ومن هذا الباب قول العرب " أرسلت " يريدون : أرسلت السماء المطر ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع .
والأنفاس : جمع نفس بفتح الفاء وهو أنسب بالحقائق .
والتراقي : جمع ترقوة " بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث " وهي ثغرة النحر ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله .
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أمن اللبس لأن في تثنية ترقوة شيئا من الثقل لا يناسب أفصح كلام وهذا مثل ما جلء في قوله تعالى ( فقد صغت قلوبكما ) في سورة التحريم .
ومعنى ( بلغت التراقي ) : أن الروح بلغت الحنجرة حيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلا في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار ومثله قوله تعالى ( فلولا إذا بلغت الحلقوم ) الآية .
واللام في ( التراقي ) مثل اللام في ( المساق ) فيقال : هي عوض عن المضاف إليه أي بلغت روحه تراقيه أي الإنسان .
ومعنى ( وقيل من راق ) وقال قائل : من يرقي هذا رقيات لشفائه ؟ أي سأل أهل المريض عن وجدان أحد يرقي وذلك عند توقع اشتداد المرض به . والبحث عن عارف برقية المريض عادة عربية ورد ذكرها في حديث السرية الذين أتوا على حي من أحياء العرب إذ لدغ سيد ذلك الحي فعرض لهم رجل من أهل الحي فقال : هل فيكم من راق ؟ إن في الماء رجلا لديغا أو سليما . رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب