ولعلماء الإسلام في ذلك أفهام مختلفة فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التي تخلقوا بها في سيرة النبي A من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله وصرف أنظارهم عن التعمق في حقيقته وإدراجه تحت أقسام الحكم العقلي وقد سمعوا هذا ونظائره كلها أو بعضها أو قليلا منها فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله ولكنهم انصرفوا إلى ما هم أحق بالعناية وهو التهمم بإقامة الشريعة وبثها وتقرير سلطانها مع الجزم بتنزيه الله تعالى على اللوازم العارضة لتلك الصفات جاعلين أمامهم المرجوع إليه في كل هذا قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله ( لا تدركه الأبصار ) بالنسبة إلى مقامنا هذا مع اتفاقهم على أن عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإيمان فلما نبع في علماء الإسلام تطلب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته لم يروا طريقة السلف مقنعة لإفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم في العلم طريقة تحميص وهي اللائقة بعصرهم وقارن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم وحدا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحين فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كل حقيقة في نصابها وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل .
فسلكت جماعات مسالك التأويل الإجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا بالتنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصلون صرفها عن ظواهرها يجملون التأويل وهذه الطائفة تدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتا جعلها فرقا فمنهم الحنابلة والظاهرية الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة .
A E ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي A مع التقييد بأنها مؤولة عن ظواهرها بوجه الإجمال . وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول .
ومنهم فرق النظارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة والأشاعرة والماتردية .
فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربهم ناسجة على هذا المنوال : فالسلف أثبتوها دون بحث والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوه قطعيا وألغوها .
والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب .
وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالما من اتجاه نقوض ومنوع ومعارضات وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصا من اتجاه منوع مجردة أو مع المستندات فطال الأخذ والرد . ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد .
ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى .
وهذا معنى قول سلفنا إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة وإن اشمأز منها المعتزلة .
هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم وأما ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى ( قال لن تراني ) في سورة الأعراف .
وتقديم المجرور من قوله ( إلى ربها ) على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة .
وبين ( ناضرة ) و ( ناظرة ) جناس محرف قريب من التام .
وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله ( وجوه يومئذ ناظرة ) أنها أريد بها التفصيل والتقسيم لمقابلته بقوله ( ووجوه يومئذ باسرة ) على حد قول الشاعر : .
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذ هي وجوه أهل الشقاء . وأعيد لفظ ( يومئذ ) تأكيد للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم