وأقول : إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه .
والي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة : إن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي A لا يخشى تفلت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور صار النبي A يخشى أن ينسى بعض آياتها فلعله A أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطا لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه . فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لما كان يلاقيه في ذلك من الشدة .
و ( قرآن ) في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان قال حسان في رثاء عثمان بن عفان : .
" يقطع الليل تسبيحا وقرآنا ولفظ ( علينا ) في الموضعين للتكفل والتعهد .
A E و ( ثم ) في ( ثم إن علينا بيانه ) للتراخي في الرتبة أي التفاوت في رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قوله ( إن علينا جمعه وقرآنه ) وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي ( إن علينا بيانه ) . ومعنى الجملتين : أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك أي عن ظهر قلب لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظا في الصدور بينا لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قرب أو بعد .
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه .
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبين متمسكين بأن ( ثم ) للتراخي وهو متمسك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته ( ثم ) إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن ولأن ( ثم ) قد عطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ ( بيانه ) خاصة فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقا لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح .
( كلا بل تحبون العاجلة [ 20 ] وتذرون الآخرة [ 21 ] ) رجوع إلى مهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجع المتكلم إلى وصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل فكلمة ( كلا ) ردع وإبطال . يجوز أن يكون إبطالا لما سبق في قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) إلى قوله ( ولو ألقى معاذيره ) فأعيد ( كلا ) تأكيدا لنظيره ووصلا للكلام بإعادة آخر كلمة منه .
والمعنى : أن مزاعمهم باطلة .
وقوله ( بل يحبون العاجلة ) إضراب أبطالي يفصل ما أجمله الرد ب ( كلا ) من إبطال ما قبلها وتكذيبه أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة " فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة أي جرى على الأمر والنهي الشرعيين لم يكن مذموما . قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون ( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ) .
ويجوز أن يكون إبطالا لما تضمنه قوله ( ولو ألقى معاذيره ) فهو استئناف ابتدائي . والمعنى : أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة أي ثرا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حسابا .
وقرأ الجمهور ( تحبون ) و ( تذرون ) بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مواجهة بالتفريع لأنه ذلك أبلغ فيه . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمر ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة والضمير عائد إلى ( الإنسان ) في قوله ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) جاء ضمير جمع لأن الإنسان مراد به الناس المشركون وفي قوله : ( بل تحبون ) ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك .
( وجه يومئذ ناظرة [ 22 ] إلى ربها ناظرة [ 23 ] ووجوه يومئذ باسرة [ 24 ] تظن أن يفعل بها فاقرة [ 25 ] ) المراد ب ( يومئذ ) يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداء من قوله ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر ) وأعيد مرتين .
والجملة المقدرة المضاف إليها ( إذ ) والمعوض عنها التنوين تقديرها : يوم إذ برق البصر