والمعنى الثاني : أن يكون ( بصيرة ) مبتدأ ثانيا والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه ومجموع الجملة خبرا عن ( الإنسان ) و ( بصيرة ) حينئذ يحتمل أن يكون معنى بصير أي مبصر والهاء للمبالغة كما تقدم في المعنى الأول وتكون تعدية ( بصيرة ) ب ( على ) لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول .
ويحتمل أن تكون ( بصيرة ) صفة لموصوف محذوف تقديره : حجة بصيرة وتكون ( بصيرة ) مجازا في كونها بينة كقوله تعالى ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) . ومنه قوله تعالى ( وآتيبا ثمود الناقة مبصرة ) والتأنيث لتأنيث الموصوف .
وقد جرت هذه مجرى المثل لإيجازها ووفرة معانيها .
وجملة ( ولو ألقى معاذيره ) في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها .
و ( لو ) هذه وصلية كما تقدم عند قوله تعالى ( فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به ) في آل عمران . والمعنى : هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره .
والإلقاء : مراد به الإخبار الصريح على وجه الاستعارة وقد تقدم عند قوله تعالى ( فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ) في سورة النحل .
A E والمعاذير : اسم جمع معذرة وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر ومثل المعاذير قولهم : المناكير اسم جمع منكر . وعن الضحاك أن معاذير هنا جمع معذار بكسر الميم وهو الستر بلغة اليمن يكون الإلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي أي الإرخاء . وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه .
والمعنى : أن الكافر يعلم يومئذ أعماله التي استحق العذاب عليها ويحاول أن يتعذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره .
و ( معاذيره ) : جمع معرف بالإضافة يدل على العموم . فمن هذه المعاذير قولهم ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) ومنها قولهم ( وما جاءنا بشير ) وقولهم ( هؤلاء أضلونا ) ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة .
( لا تحرك به لسانك لتعجل به [ 16 ] إن علينا جمعه وقرآنه [ 17 ] فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 18 ] ثم إن علينا بيانه [ 19 ] ) هذه الآية وقعت هنا معترضة . وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال " كان رسول الله A إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه أو من شدة رغبته في حفظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنزل الله تعالى ( لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ) . قال : جمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت ثم إن علينا لنبينه بلسانك أي تقرأه " اه . فلما نزل هذا الوحي في أثناء السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يكن سورة مستقلة كان ملحقا بالسورة وواقعا بين الآي التي نزل بينها .
فضمير ( به ) عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة .
وقوله ( فإذا قرأناه ) أي إذا قرأه جبريل عنا فأسندت القراءة إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي والقرينة واضحة .
ومعنى فاتبع قرآنه أي أنصت إلى قراءتنا .
فضمير ( قرآنه ) راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في ( لا تحرك به ) وهو القرآن بالمعنى الاسمي فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) في سورة مريم ووقوع ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) في أثناء أحكام الزوجات في سورة البقرة . قالوا : فنزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة : هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير . وذكر الفخر عن القفال أنه قال : إن قوله ( لا تحرك به لسانك ) ليس خطابا مع الرسول A بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله ( ينبأ الإنسان ) فكان ذلك للإنسان حالما ينبأ بقبائح أفعاله فيقال له : اقرأ كتابك فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له : لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار ثم أن علينا بيان مراتب عقوبته قال القفال : فهذا وجهه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه