وذكر ( يومئذ ) مع أن قوله ( إذا برق البصر ) الخ مغن عنه للاهتمام ذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ( ويستهزئون ) فيسألون عن وقته وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد .
والإنسان : هو المتحدث عنه من قوله ( أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ) أي يقول الإنسان الكافر يومئذ : أين المفر .
والمفر : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر والاستفهام مستعمل في التمني أي ليت لي فرارا في مكان نجاة ولكنه لا يستطيعه .
و ( أين ) ظرف مكان .
و ( كلا ) ردع وإبطال لما تضمنه ( أين المفر ) من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا .
والوزر : المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون .
فيجوز أن يكون ( كلا لا وزر ) كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان أي لا وزر لك فينبغي الوقف على ( المفر ) . ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإنسان أي يقول : أين المفر ؟ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول ( كلا لا وزر ) أي لا وزر لي وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث فيحسن أن يوصل ( أين المفر ) بجملة ( كلا لا وزر ) .
A E وأما قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي ( ص في الدنيا بقرينة قوله ( يومئذ ) فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم .
وفي إضافة ( رب ) إلى ضمير النبي A إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته .
والمستقر : مصدر ميمي من استقر إذا قر في المكان ولم ينتقل والسين والتاء للمبالغة في الوصف .
وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر . والمعنى : لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهيا إلى ربك وهذا كقوله تعالى ( وإلى الله المصير ) .
وجملة ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله ( إلى ربك يومئذ المستقر ) أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبأون بما قدموا وما أخروا .
وينبغي أن يكون المراد ب ( الإنسان ) الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ) الآية . واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة . وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة .
وتنبئة الإنسان بما قدم وأخر كناية عن مجازاته على ما فعله : إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء إذ يقال له : هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها فكان الإنباء من لوازم الجزاء قال تعالى ( قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم ) ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله .
والمراد ب ( ما قدم ) : ما فعله و ب ( ما أخر ) : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علمه النبي A من الدعاء " فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت " .
( بل الإنسان على نفسه بصيرة [ 14 ] ولو ألقى معاذيره [ 15 ] ) إضراب انتقالي وهو للترقي من مضمون ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) إلى الإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال ( يا ليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ) ( وقالوا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ) . وقال تعالى ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) .
ونظم قوله ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) صالح لإفادة معنيين : أولهما أن يكون ( بصيرة ) بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون ( بصيرة ) خبرا عن ( الإنسان ) . و ( على نفسه ) متعلقا ب ( بصيرة ) أي الإنسان بصير بنفسه . وعدي بحرف ( على ) لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) . وهاء ( بصيرة ) تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسابة أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذ