الضرب الثالث : أعمال لمصالح الأمة وأشار إليه بقوله ( وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) ودخل في ذلك حراسة الثغور والرباط بها وتدبير الجيوش وما يرجع إلى نشر دعوة الإسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء . وهذا كله من شؤون الأمة على الإجمال فيدخل في بعضها النبي A كما في القتال في سبيل الله والمرض ففي الحديث اشتكى رسول الله A فلم يقيم ليلة أو ليلتين .
وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات .
وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلا تنويها بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر .
روي عن ابن مسعود أنه قال " أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسبا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء وقرأ ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) " .
وعن ابن عمر " ما خلق الله موتا بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض " .
فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم .
ومعنى ( يضربون في الأرض ) يسيرون في الأرض .
وحقيقة الضرب : قرع جسم بجسم آخر وسمي السير في الأرض ضربا في الأرض لتضمين فعل ( يضربون ) معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف ( في ) لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى ( فسيروا في الأرض ) وقد تقدم عند قوله ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ) في سورة النساء .
والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) أي التجارة في مدح الحج فقوله تعالى ( يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثير ويكون في النهار فيحتاج المسفر للنوم في النهار .
وفرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال ( فاقرأوا ما تيسر منه ) أي من القرآن .
وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار .
وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين أو بيان لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسي بالنبي A في ذلك غير لازم لهم . وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجبا عليهم أو رفع وجوبه . ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقي حكم القيام ورخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي على قول عائشة أم المؤمنين : " إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر " وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر .
وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركنا من أركان الإسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه .
وأما حكم القيام فهو ما دل عليه قوله ( قم الليل إلا قليلا ) وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة . وقد مضى ذلك كله . فهذه الآية صالحة أن تكون أصلا للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلا تقاس عليه الرخصة العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية .
A E وقوله ( وأقيموا الصلاة ) تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) .
وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن الصلوات الخمس ما يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة