ولا ينبغي أن يطال القول في أن القيام الذي شرع في صدر السورة كان قياما واجبا على النبي A خاصة وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به وأقرهم النبي A عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسخ وجوب قيام الليل وهي تريد أن قيام الليل كان فرضا على المسلمين وهو تأويل كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على المة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجرى ذكر تعريضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج وأن وجوب الخمس على النبي A مثل وجوبها على المسلمين . وهذا قول ابن عباس لأنه قال : إن قيام الليل لم ينسخه إلا آية ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ) الآية ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي A سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه ( فاقرأوا ما تيسر من القرآن ) .
وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلة بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه " نام رسول الله A وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله " ثم وصف وضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح . وابن عباس يومئذ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة .
ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلا حين احتجز موضعا من المسجد لقيامه في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا ينسلون إلى المسجد ليصلوا بصلاة نبيهم A حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم " لقد خشيت أن تفرض عليكم " وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة .
وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول A لم يكن فرضا عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلا لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قدر أن بعض قيام الليل كان مفروضا لكان قيامهم مع النبي A أداء لذلك المفروض وقد عضد ذلك حديث ابن عمر " أن رسول الله A قال لحفصة وقد قصت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل " .
وافتتاح الكلام ب ( أن ربك يعلم أنك تقوم ) يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدر المعين فيه النصف أو أنقص منه قليلا أو زائد عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي A في قوله تعالى ( فلما قضى موسى الأجل ) أنه قضى أقصى الأجلين وهو العشر السنون .
وقد جاء في الحديث " أن النبي A كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه " .
وتأكيد الخبر ب ( إن ) للاهتمام به وهو كناية عن أنه أرضى ربه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله ( فتاب عليكم ) ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد .
ولم تنزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي A بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيام مقامه بمكة فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله A من قيام الليل الواجب منه والرغيبة .
A E وفي حديث علي بن أبي طالب " أنه سأل عن النبي A إذا آوى إلى منزله فقال : كان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءا لله وجزءا لأهله وجزءا لنفسه ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم " .
وإيثار المضارع في قوله ( يعلم ) للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده إيذان بأنه بمحمل الرضى منه .
وفي ضده قوله ( قد يعلم الله المعوقين منكم ) لأنه في معرض التوبيخ أي لم يزل عالما بذلك حينا فحينا لا يخفى عليه منه حصة