وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة .
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول وهو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطع مثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله ( فقالوا أن } من لبشر مثلنا وقومهما لنا عابدون ) وقد قال أهل مكة ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا ) . وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبي A والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا .
وأكد الخبر ب ( أن ) لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا .
ونكر ( رسولا ) لأنهم يعلمون المعني به في هذا الكلام ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول A بل هو صفة الإرسال .
وأدمج في التنظير والتهديد وصف الرسول A بكونه شاهدا عليهم .
والمراد بالشهادة هنا : الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف ( شاهدا ) موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإبلاغ .
وأما شهادة الرسول A يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربهم وذلك قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح وقد تقدم في سورة البقرة .
وتنكير ( رسولا ) المرسل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإرسال في قوله ( كما أرسلنا إلى فرعون ) إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا .
وتفريع ( فعصى فرعون الرسول ) إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحل بالمخاطبين لما عصوا الرسول A مثل ما حل بفرعون .
وفي إظهار اسم فرعون في قوله ( فعصى فرعون ) دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول .
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أول مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى .
والأخذ مستعمل في الإهلاك مجازا لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده .
والوبيل : فعيل صفة مشبهة من وبل المكان إذا وخم هواؤه أو مرعى كلئه وقال زهير : .
" إلى كلا مستوبل متوخم وهو هنا مستعار لسيء العاقبة شديد السوء وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه .
( فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا [ 17 ] السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ 18 ] ) A E الاستفهام ب ( كيف ) مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول A وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول A شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلا المؤاخذة بما شهد به . وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتعاظ وخوف من الوعيد بما حل بأمثالهم مما شأنه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هددوا به وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة فدلت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى .
فالمعنى : هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة ففعل الشرط من قوله ( إن كفرتم ) مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدوام من فعل ( كفرتم ) وإلا فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية